الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) .

[ ص: 178 ] [ ص: 179 ] مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا وطلبه الولد وإجابة الله إياه فولد له من شيخ فان وعجوز له عاقر وكان ذلك مما يتعجب منه ، أردفه بما هو أعظم في الغرابة والعجب وهو وجود ولد من غير ذكر ، فدل ذلك على عظم قدرة الله وحكمته ، وأيضا فقص عليهم ما سألوه من قصة أهل الكهف وأتبع ذلك بقصة الخضر وموسى ، ثم قص عليهم ما سألوه أيضا وهو قصة ذي القرنين ، فذكر في هذه السورة قصصا لم يسألوه عنها وفيها غرابة ، ثم أتبع ذلك بقصة إبراهيم وموسى وهارون موجزة ، ثم بقصة إسماعيل وإدريس ليستقر في أذهانهم أنه أطلع نبيه على ما سألوه وعلى ما لم يسألوه ، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - وحيه في ذلك واحد يدل على صدقه وصحة رسالته من أمي لم يقرأ الكتب ولا رحل ولا خالط من له علم ولا عنى بجمع سير .

و ( الكتاب ) القرآن . ومريم هي ابنة عمران أم عيسى ، و ( إذ ) قيل ظرف زمان منصوب بـ ( اذكر ) ، ولا يمكن ذلك مع بقائه على الظرفية ؛ لأن الاستقبال لا يقع في الماضي . وقال الزمخشري : ( إذ ) بدل من ( مريم ) بدل الاشتمال ؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وقته ، إذ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيها انتهى . ونصب ( إذ ) بـ ( اذكر ) على جهة البدلية يقتضي التصرف في ( إذ ) وهي من الظروف التي لم يتصرف فيها إلا بإضافة ظرف زمان إليها . فالأولى أن يجعل ثم معطوف محذوف دل المعنى عليه وهو يكون العامل في ( إذ ) وتبقى على ظرفيتها وعدم تصرفها ، وهو أن تقدر مريم وما جرى لها ( إذ انتبذت ) واستبعد أبو البقاء قول الزمخشري قال : لأن الزمان إذا لم يكن حالا عن الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها انتهى . واستبعاده ليس بشيء لعدم الملازمة . قال : وقيل التقدير خبر مريم فإذ منصوبة لخبر . وقيل : حال من هذا المضاف المحذوف . وقيل : ( إذ ) بمعنى أن المصدرية كقولك : أكرمك إذ لم تكرمني ، أي : إن لم تكرمني . قال أبو البقاء : فعلى هذا يصح بدل الاشتمال ، أي : واذكر مريم انتباذها انتهى .

و ( انتبذت ) افتعل من نبذ ، ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت . قال السدي ( انتبذت ) لتطهر من حيضها وقال غيره : لتعبد الله وكانت وقفا على سدانة المتعبد وخدمته والعبادة فتنحت من الناس كذلك ، وانتصب ( مكانا ) على الظرف ، أي : في مكان ، ووصف بشرقي [ ص: 180 ] لأنه كان مما يلي بيت المقدس أو من دارها ، وسبب كونه في الشرق أنهم كانوا يعظمون جهة الشرق من حيث تطلع الشمس . وعن ابن عباس : اتخذت النصارى الشرق قبلة لميلاد عيسى عليه السلام . وقيل : قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط ، أي : شيء يسترها ، وكان موضعها المسجد فبينا هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق . وقال قتادة ( شرقيا ) شاسعا بعيدا انتهى .

والحجاب الذي اتخذته لتستتر به عن الناس لعبادة ربها . قال السدي : كان من جدران . وقيل : من ثياب . وعن ابن عباس : جعلت الجبل بينها وبين الناس ( حجابا ) وظاهر الإرسال من الله إليها ، ومحاورة الملك تدل على أنها نبية . وقيل : لم تنبأ وإنما كلمها مثال بشر ، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل - عليه السلام - في صفة دحية . وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام . والظاهر أن الروح جبريل ؛ لأن الدين يحيا به وبوحيه ، أو سماه روحه على المجاز محبة له وتقريبا ، كما تقول لحبيبك : أنت روحي . وقيل عيسى كما قال وروح منه ، وعلى هذا يكون قوله ( فتمثل ) ، أي : الملك . وقرأ أبو حيوة وسهل ( روحنا ) بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد ، وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان ) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح ، أي : مقربنا وذا روحنا . وذكر النقاش أنه قرئ ( روحنا ) بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب ( بشرا سويا ) على الحال لقوله وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا . قيل : وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن ، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها .

وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفرج السقف لها ، فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملك . وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس ، وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلا عند من يتقي الله ، أي : إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك . وجواب الشرط محذوف ، أي : فإني أعوذ . وقال الزجاج : فستتعظ بتعويذي بالله منك . وقيل : فاخرج عني . وقيل : فلا تتعرض لي . وقول من قال : تقي اسم رجل صالح ، أو رجل فاسد ليس بسديد . وقيل : ( إن ) نافية ، أي : ما ( كنت تقيا ) ، أي : بدخولك علي ونظرك إلي ، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما .

( قال ) ، أي : جبريل - عليه السلام - ( إنما أنا رسول ربك ) الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك ، وهو الذي استعذت به ، وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبة ، أرسلني إليك ليهب . وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمرو : ( ليهب ) ، أي : ليهب ربك . وقرأ الجمهور وباقي السبعة ( لأهب ) بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله .

وقال الزمخشري : ( لأهب لك ) لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الروع . وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك ، ويحتمل أن يكون محكيا بقول محذوف ، أي : قال ( لأهب ) والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة . وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله . وتقدم [ ص: 181 ] الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها ( ولم أك بغيا ) تخصيص بعد تعميم ؛ لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح .

وقال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله ( من قبل أن تمسوهن ) أو لامستم النساء ، والزنا ليس كذلك إنما يقال : فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن يراعى فيه الكنايات والآداب انتهى . والبغي : المجاهرة المشتهرة في الزنا ، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي . قيل : ولو كان فعيلا لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية . وقال ابن جني في كتاب التمام : هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغو ، كما قيل : فلان نهو عن المنكر انتهى . قيل : ولما كان هذا اللفظ خاصا بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق ، وإنما ، يقال للرجل باغ . وقيل : بغي فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل ، أي : مبغية يطلبها أمثالها .

( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا ( ولنجعله ) يحتمل أن يكون معطوفا على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا ( ولنجعله ) أو محذوف متأخر ، أي : فعلنا ذلك ، والضمير في ( ولنجعله ) عائد على الغلام وكذلك في قوله ( وكان ) ، أي : وكان وجوده ( أمرا ) مفروغا منه ، وكونه رحمة من الله ، أي : طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك . وذكروا أن جبريل - عليه السلام - نفخ في جيب درعها أو فيه وفي كمها وقال : أي دخل الروح المنفوخ من فمها ، والظاهر أن المسند إليه النفخ هو الله تعالى لقوله ( فنفخنا ) ويحتمل ما قالوا : ( فحملته ) ، أي : في بطنها والمعنى فحملت به . قيل : وكانت بنت أربع عشرة سنة . وقيل : بنت خمس عشرة سنة ، قاله وهب ومجاهد . وقيل : بنت ثلاث عشرة سنة . وقيل : اثنتى عشرة سنة . وقيل : عشر سنين . قيل : بعد أن حاضت حيضتين . وحكى محمد بن الهيصم أنها لم تكن حاضت بعد . وقيل : لم تحض قط مريم وهي مطهرة من الحيض ، فما أحست وخافت ملامة الناس أن يظن بها الشر فارتمت به إلى مكان قصي حياء وفرارا . روي أنها فرت إلى بلاد مصر أو نحوها ، قاله وهب . وقيل : إلى موضع يعرف ببيت لحم بينه وبين إيليا أربعة أميال . وقيل : بعيدا من أهلها وراء الجبل . وقيل : أقصى الدار . وقيل : كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل الملك هرب بها ، فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال : إنه من روح القدس فلا تقتلها فتركها ، حملته في ساعة واحدة فكما حملته نبذته عن ابن . وقيل : كانت مدة الحمل ثلاث ساعات . وقيل : حمل في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة . وقيل : ستة أشهر . وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر . وقيل : ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ، وهذه أقوال مضطربة متناقضة كان ينبغي أن يضرب عنها صفحا إلا أن المفسرين ذكروها في كتبهم وسودوا بها الورق ، والباء في ( به ) للحال ، أي : مصحوبة به ، أي : اعتزلت وهو في بطنها كما قال الشاعر :


تدوس بنا الجماجم والتريبا



أي تدوس الجماجم ونحن على ظهورها .

ومعنى ( فأجاءها ) ، أي : جاء بها تارة ، فعدي جاء بالباء وتارة بالهمزة . [ ص: 182 ] قال الزمخشري : إلا أن استعماله قد يغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ألا تراك لا تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول : بلغته وأبلغنيه ، ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل آتيت المكان وآتانيه فلان انتهى . أما قوله وقول غيره : إن الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل أئمة اللغة المستقرئين ذلك عن لسان العرب ، والإجاءة تدل على المطلق فتصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت : أقمت زيدا فإنه قد يكون مختارا لذلك وقد يكون قد قسرته على القيام . وأما قوله : " ألا تراك لا تقول " إلى آخره ، فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز ذلك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياسا فقد سمع ذلك في جاء ، حيث قالوا : أجاء فيجيز ذلك ، وأما تنظيره ذلك بـ ( آتى ) فهو تنظير غير صحيح ؛ لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية ، وأن أصله أتى وليس كذلك بل آتى مما بني على أفعل وليس منقولا من أتى بمعنى جاء ، إذ لو كان منقولا من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأول إذا عديته بالهمزة ، تقول : أتى المال زيدا ، وآتى عمرو زيدا المال ، فيختلف التركيب بالتعدية ؛ لأن زيدا عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني . وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس فدل على أنه ليس على ما قاله . وأيضا فآتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى . وقوله : ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم ، بل يقال : أتيت المكان كما تقول : جئت المكان . وقال الشاعر :


أتوا ناري فقلت منون أنتم     فقالوا الجن قلت عموا ظلاما



ومن رأى النقل بالهمزة قياسا قال : أتانيه . وقرأ الجمهور ( فأجاءها ) ، أي : ساقها . وقال الشاعر :


وجار سار معتمدا إليكم     أجاءته المخافة والرجاء



وأمال فتحة الجيم الأعمش وطلحة . وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم . قال ابن عطية وشبيل بن عزرة : فاجأها من المفاجأة . وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة : فاجأها . فقيل : هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس ، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة . وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم . وقرأ ابن كثير في رواية ( المخاض ) بكسر الميم ، يقال مخضت الحامل مخاضا ومخاضا وتمخض الولد في بطنها : و ( إلى ) تتعلق بـ ( فأجاءها ) ، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف ، أي : مستندة ، أي : في حال استنادها إلى النخلة ، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى - عليه السلام - كان بيت لحم ، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس ، ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه ، وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء ، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال : بكورة أهناس .

قيل : ونخلة مريم قائمة إلى اليوم ، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها . وقيل : إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها . وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدود ، لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة ، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل ( جذع النخلة ) فهم منه ذلك دون غيره . وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها ، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت [ ص: 183 ] الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى - عليه السلام - فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ( ياليتني مت قبل هذا ) وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك ، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين . وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن ، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران ، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث . وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح . وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون . وقرأ محمد بن كعب القرظي : نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء ، وهي قراءة نوف الأعرابي . وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء ، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء .

وقال ابن عطية : وقرأ بكر بن حبيب : نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض والنفض . قال الفراء نسي ونسي لغتان كالوتر والوتر والفتح أحب إلي . وقال أبو علي الفارسي : الكسر أعلى اللغتين . وقال ابن الأنباري : من كسر فهو اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض ، ومن فتح فمصدر نائب عن اسم كما يقال : رجل دنف ودنف والمكسور هو الوصف الصحيح والمفتوح مصدر يسد مسد الوصف ، ويمكن أن يكونا لمعنى كالرطل والرطل ، والإشارة بقوله هذا إلى الحمل .

وقيل : ( قبل هذا ) اليوم أو ( قبل هذا ) الأمر الذي جرى : وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية ( منسيا ) بكسر الميم إتباعا لحركة السين كما قالوا منتن بإتباع حركة الميم لحركة التاء . وقيل : تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله أو لشدة التكليف عليها إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة ، وبضد ما فريت ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام ، أو لحزنها على الناس أو يأثم الناس بسببها . وروي أنها سمعت نداء اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت و ( قالت ياليتني مت ) . وقال وهب : أنساها كرب الولادة وما سمعت من الناس بشارة الملائكة بعيسى .

وقرأ زر وعلقمة فخاطبها مكان ( فناداها ) وينبغي أن يكون تفسيرا لا قراءة ؛ لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، والمنادى الظاهر أنه عيسى ، أي : فولدته فأنطقه الله وناداها ، أي : حالة الوضع . وقيل : جبريل وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها ، وقاله الحسن وأقسم على ذلك . قيل : وكان يقبل الولد كالقابلة . وقرأ ابن عباس ( فناداها ) ملك ( من تحتها ) . وقرأ البراء بن عازب وابن عباس والحسن وزيد بن علي والضحاك وعمرو بن ميمون ونافع وحمزة والكسائي وحفص ( من ) حرف جر . وقرأ الابنان والأبوان وعاصم وزر ومجاهد والجحدري والحسن وابن عباس في رواية عنهما ( من ) بفتح الميم بمعنى الذي و ( تحتها ) ظرف منصوب صلة لمن ، وهو عيسى ، أي : ناداها المولود قاله أبي والحسن وابن جبير ومجاهد و ( أن ) حرف تفسير ، أي : ( لا تحزني ) والسري في قول الجمهور الجدول . وقال الحسن وابن زيد وقتادة عظيما من الرجال له شأن . وروي أن الحسن فسر الآية فقال : أجل لقد جعله الله ( سريا ) كريما فقال حميد بن عبد الرحمن : يا أبا سعيد إنما يعني بالسري الجدول ، فقال الحسن لهذه وأشباهها أحب قربك ، ولكن غلبنا الأمراء .

ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع [ ص: 184 ] وقالت فرقة : بل كانت النخلة مطعمة رطبا . وقال السدي : كان الجذع مقطوعا وأجري تحته النهر لجنبه ، والظاهر أن المكلم هو عيسى وأن الجذع كان يابسا ، وعلى هذا ظهرت لها آيات تسكن إليها ، وحزنها لم يكن لفقد الطعام والشراب حتى تتسلى بالأكل والشرب ، ولكن لما ظهر في ذلك من خرق العادة حتى يتبين لقومها أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها . قال ابن عباس : كان جذعا نخرا فلما هزت إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ، ثم اخضر فصار بلحا ، ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا ، كل ذلك في طرفة عين ، فجعل الرطب يقع من بين يديها لا يتسرح منه شيء . و ( إلى ) حرف بلا خلاف ويتعلق بقوله ( وهزي ) وهذا جاء على خلاف ما تقرر في علم النحو من أن الفعل لا يتعدى إلى الضمير المتصل ، وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا علم وهما لمدلول واحد لا يقال : ضربتك ولا زيد ضربه ، أي : ضرب نفسه ولا ضربني إنما يؤتى في مثل هذه التراكيب بالنفس فتقول : ضربت نفسك ، وزيد ضرب نفسه ، وضربت نفسي ، والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا تقول : هززت إليك ، ولا زيد هز إليه ، ولا هززت إلي ، ولهذا زعموا في قول الشاعر :


فدع عنك نهبا صيح في حجراته     ولكن حديثا ما حديث الرواحل



وفي قول الآخر :


وهون عليك فإن الأمو     ر بكف الإله مقاديرها



إن عن وعلى ليسا حرفين وإنما هما اسمان ظرفان ، وهذا ليس ببعيد ؛ لأن عن وعلى قد ثبت كونهما اسمين في قوله :


من عن يمين الحبيا نظرة قبل



وفي قوله :


غدت من عليه بعدما تم ظمؤها



وبعض النحويين زعم أن على لا تكون حرفا ألبتة ، وأنها اسم في كل مواردها ، ونسب إلى سيبويه ، ولا يمكن أن يدعى أن ( إلى ) تكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها كما قلنا . ونظير قوله تعالى ( وهزي إليك ) قوله تعالى ( واضمم إليك جناحك ) وعلى تقرير تلك القاعدة ينبغي تأويل هذين ، وتأويله على أن يكون قوله ( إليك ) ليس متعلقا ( بهزي ) ولا ( باضمم ) ، وإنما ذلك على سبيل البيان ، والتقدير أعني إليك فهو متعلق بمحذوف كما قالوا في قوله ( إني لكما لمن الناصحين ) وما أشبهه على بعض التأويلات . والباء في ( بجذع ) زائدة للتأكيد كقوله ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) . قال أبو علي كما يقال : ألقى بيده ، أي : ألقى يده . وكقوله :


سود المحاجر لا يقرأن بالسور



أي لا يقرأن السور . وأنشد الطبري :


بواد يمان ينبت الشث صدره     وأسفله بالمرخ والشبهان



وقال الزمخشري أو على معنى افعلي الهز به . كقوله :


يخرج في عراقيبها نصلي



قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذلك التحنيك ، وقالوا : كان من العجوة قاله محمد بن كعب . وقيل : ما للنفساء خير من الرطب . وقيل : إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب . وقرأ الجمهور ( تساقط ) بفتح التاء والسين وشدها بعد ألف وفتح القاف . وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق وحمزة كذلك إلا أنهم خففوا السين . وقرأ حفص ( تساقط ) مضارع ساقطت . وقرأ أبو السمال تتساقط بتاءين . وقرأ البراء بن عازب والأعمش في رواية ( يساقط ) بالياء من تحت مضارع اساقط . وقرأ أبو حيوة ومسروق ( تسقط ) بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف . وعن [ ص: 185 ] أبي حيوة كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وعنه ( تسقط ) بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف ، وعنه كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وقال بعضهم في قراءة أبي حيوة هذه أنه قرأ رطب جني بالرفع على الفاعلية ، وأما النصب فإن قرأ بفعل متعد نصبه على المفعول أو بفعل لازم فنصبه على التمييز ، ومن قرأ بالياء من تحت فالفعل مسند إلى الجذع ، ومن قرأ بالتاء فمسند إلى النخلة ، ويجوز أن يكون مسندا إلى الجذع على حد ( يلتقطه بعض السيارة ) في قراءة من قرأ يلتقطه بالتاء من فوق .

وأجاز المبرد في قوله ( رطبا ) أن يكون منصوبا بقوله ( وهزي ) ، أي : ( وهزي إليك بجذع النخلة ) رطبا تساقط عليك ، فعلى هذا الذي أجازه تكون المسألة من باب الإعمال ، فيكون قد حذف معمول ( تساقط ) فمن قرأه بالياء من تحت فظاهر ، ومن قرأ بالتاء من فوق فإن كان الفعل متعديا جاز أن يكون من باب الإعمال ، وإن كان لازما فلا لاختلاف متعلق ( هزي ) إذ ذاك والفعل اللازم .

وقرأ طلحة بن سليمان ( جنيا ) بكسر الجيم إتباعا لحركة النون . والرزق فإن كان مفروغا منه فقد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه ، ولذلك أمرت مريم بهز الجذع وعلى هذا جاءت الشريعة وليس ذلك بمناف للتوكل .

وعن ابن زيد قال عيسى لها لا تحزني ، فقالت : كيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس ؟ ( ياليتني مت قبل هذا ) الآية فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام ( فكلي واشربي وقري عينا ) . قال الزمخشري : ، أي : جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين وهو معنى قوله ( فكلي واشربي وقري عينا ) ، أي : وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك انتهى . ولما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية ولمجاورة قوله ( تساقط عليك رطبا جنيا ) ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال : ( وقري عينا ) ، أي : لا تحزني ، ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحدا . وقرئ ( وقري ) بكسر القاف وهي لغة نجدية وتقدم ذكرها .

وقرأ أبو عمرو في ما روى عنه ابن رومي ( ترئن ) بالإبدال من الياء همزة وروي عنه ( لترؤن ) بالهمز أيضا بدل الواو . قال ابن خالويه : وهو عند أكثر النحويين لحن . وقال الزمخشري : وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج ، وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال انتهى . وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ( ترين ) بسكون الياء وفتح النون خفيفة . قال ابن جني : وهي شاذة يعني لأنه لم يؤثر الجازم فيحذف النون . كما قال الأفوه الأودي :


أما ترى رأسي أزرى به     مآس زمان ذي انتكاس مئوس



والآمر لها بالأكل والشرب وذلك القول ، الظاهر أنه ولدها . وقيل جبريل على الخلاف الذي سبق ، والظاهر أنه أبيح لها أن تقول ما أمرت بقوله وهو قول الجمهور . وقالت فرقة : معنى ( فقولي ) ، أي : بالإشارة لا بالكلام وإلا فكان التناقض ينافي قولها انتهى . ولا تناقض ؛ لأن المعنى ( فلن أكلم اليوم إنسيا ) بعد ( قولي ) هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليه المعنى ، أي : ( فإما ترين من البشر أحدا ) وسألك أو حاورك الكلام ( فقولي ) .

وقرأ زيد بن علي صياما وفسر ( صوما ) بالإمساك عن الكلام . وفي مصحف عبد الله صمتا . وعن أنس بن مالك مثله . وقال السدي وابن زيد : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام انتهى . والصمت منهي عنه ولا يصح نذره . وفي الحديث : " مره فليتكلم " . وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق ، وأمرت بنذر الصوم ؛ لأن عيسى بما يظهر الله عليه يكفيها أمر الاحتجاج ومجادلة السفهاء . وقوله ( إنسيا ) لأنها كانت تكلم الملائكة [ ص: 186 ] دون الإنس .

التالي السابق


الخدمات العلمية