الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا ( قد جئناك بآية من ربك ) وتكرر أيضا قولهما ( من ربك ) على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور ، والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ، ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما . وقال الزمخشري : ( قد جئناك بآية من ربك ) جارية من الجملة الأولى وهي ( إنا رسولا ربك ) مجرى البيان والتفسير ؛ لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي المجيء بالآية ، وإنما وحد بآية ولم يثن ومعه آيتان ؛ لأن المراد في هذا الموضع تثبيت الدعوى ببرهانها ، فكأنه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك ( قد جئتكم ببينة من ربكم ) ( فأت بآية إن كنت من الصادقين ) ( أولو جئتك بشيء مبين ) انتهى . وقيل : الآية اليد . وقيل : العصا ، والمعنى بآية تشهد لنا بأنا رسولا ربك . والظاهر أن قوله ( والسلام على من اتبع الهدى ) فصل للكلام ، فالسلام بمعنى التحية رغبا به عنه وجريا على العادة في التسليم عند الفراغ [ ص: 247 ] من القول ، فسلما على متبعي الهدى وفي هذا توبيخ له . وفي هذا المعنى استعمل الناس هذه الآية في مخاطباتهم ومحاوراتهم . وقيل : هو مدرج متصل بقوله ( إنا قد أوحي إلينا ) فيكون إذ ذاك خبرا بسلامة المهتدين من العذاب . وقيل ( على ) بمعنى اللام ، أي : والسلامة ( لمن اتبع الهدى ) .

وقال الزمخشري : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين ، وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين انتهى . وهو تفسير غريب .

وقد ، يقال : السلام هنا السلامة من العذاب بدليل قوله ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) وبني ( أوحي ) لما لم يسم فاعله ، ولم يذكر الموحى ؛ لأن فرعون كانت له بادرة فربما صدر منه في حق الموحي ما لا يليق به ، والمعنى على من كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان . وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن ؛ لأن المؤمن ما كذب وتولى فلا يناله شيء من العذاب . وفي الكلام حذف تقديره فأتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله أن يبلغاه قال : ( فمن ربكما يا موسى ) خاطبهما معا وأفرد بالنداء موسى . قال ابن عطية : إذ كان صاحب عظم الرسالة وكريم الآيات . وقال الزمخشري : لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، ويحتمل أن يحمله خبثه وذعارته على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون والرتة في لسان موسى ، ويدل عليه قوله : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) انتهى .

واستبد موسى - عليه السلام - بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معا ، ثم أعلمه من صفات الله تعالى بالصفة التي لا شرك لفرعون فيها ولا بوجه مجاز . قال الزمخشري : ولله در هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق . انتهى . والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا . وقال الشاعر :


وله في كل شيء خلقة وكذلك الله ما شاء فعل



وهذا قول مجاهد وعطية ومقاتل ، وقال الضحاك ( خلقه ) من المنفعة المنوطة به المطابقة له ( ثم هدى ) ، أي : يسر كل شيء لمنافعه ومرافقه ، فأعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . قال القشيري : والخلق المخلوق ؛ لأن البطش والمشي والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء ، وعلى هذا مفعول ( أعطى ) الأول ( كل شيء ) والثاني ( خلقه ) وكذا في قول ابن عباس وابن جبير والسدي وهو أن المعنى ( أعطى كل شيء ) مخلوقه من جنسه ، أي : كل حيوان ذكر نظيره أنثى في الصورة . فلم يزاوج منهما غير جنسه ، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه . وعن ابن عباس أنه هداه إلى إلفه والاجتماع به والمناكحة . وقال الحسن وقتادة ( أعطى كل شيء ) صلاحه وهداه لما يصلحه .

وقيل : ( كل شيء ) هو المفعول الثاني لأعطى و ( خلقه ) المفعول الأول ، أي : ( أعطى ) خليقته ( كل شيء ) يحتاجون إليه ويرتفقون به . وقرأ عبد الله وأناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو نهيك وابن أبي إسحاق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي ، وابن نوح عن قتيبة وسلام ( خلقه ) بفتح اللام فعلا ماضيا في موضع الصفة لكل شيء أو لشيء ، ومفعول ( أعطى ) الثاني حذف اقتصارا ، أي : ( كل شيء خلقه ) لم يخله من عطائه وإنعامه ( ثم هدى ) ، أي : عرف كيف يرتفق بما أعطى وكيف يتوصل إليه . وقيل : حذف اختصارا لدلالة المعنى عليه ، أي : ( أعطى كل شيء خلقه ) ما يحتاج إليه ، وقدره ابن عطية كماله أو مصلحته .

التالي السابق


الخدمات العلمية