الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ونصرناه من القوم ) عداه بمن لتضمنه معنى ( نجيناه ) بنصرنا ( من القوم ) أو عصمناه ومنعناه أي من مكروه القوم لقوله ( فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ) . وقال الزمخشري : هو نصر الذي مطاوعه انتصر ، وسمعت هذليا يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه أي اجعلهم منتصرين منه ، وهذا معنى في نصر غير المتبادر إلى الذهن . وقال أبو عبيدة ( من ) بمعنى على أي ( ونصرناه ) على ( القوم ) ( فأغرقناهم ) أي أهلكناهم بالغرق . و ( أجمعين ) تأكيد للضمير المنصوب وقد كثر التوكيد بأجمعين غير تابع لكلهم في القرآن ، فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد بأجمعين قليل ، وأن الكثير استعماله تابعا لكلهم .

( وداود وسليمان ) عطف على ( ونوحا ) . قال الزمخشري : ( وإذا ) بدل منهما . انتهى . والأجود أن يكون التقدير واذكر ( داود الجبال ) أي قصتهما وحالهما ( إذ يحكمان ) وجعل ابن عطية ( وداود وسليمان ) معطوفين على قوله ( ونوحا ) معطوفا على قوله ( ولوطا ) فيكون ذلك مشتركا في العامل الذي هو ( آتينا ) المقدرة الناصبة للوط المفسرة بآتينا فالتقدير وآتينا نوحا وداود وسليمان أي آتيناهم ( حكما وعلما ) ولا يبعد ذلك وتقدير اذكر قاله جماعة . وكان داود ملكا نبيا يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة ، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر ، فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم و ( الحرث ) يقال فيهما وهو في الزرع أكثر ، وأبعد عن الاستعارة دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه ، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم وما أفسدت من الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحرث والغلة فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال : يا نبي الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع ، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل ، فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود : وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك . والظاهر أن كلا من داود وسليمان حكم بما ظهر له وهو متوجه عنده فحكمهما باجتهاد وهو قول الجمهور ، واستدل بهذه الآية على جواز الاجتهاد .

وقيل : حكم كل واحد منهما بوحي من الله ونسخ حكم داود بحكم سليمان ، وأن معنى ( ففهمناها سليمان ) أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله أن يستقر في النازلة . وقرأ عكرمة فأفهمناها عدي بالهمزة كما عدي في قراءة الجمهور بالتضعيف والضمير في ( ففهمناها ) للحكومة أو الفتوى ، والضمير في ( لحكمهم ) عائد على الحاكمين [ ص: 331 ] والمحكوم لهما وعليهما ، وليس المصدر هنا مضافا لا إلى فاعل ولا مفعول ، ولا هو عامل في التقدير فلا ينحل بحرف مصدري والفعل بل هو مثل له ذكاء ذكاء الحكماء وذهن ذهن الأذكياء وكان المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية ( شاهدين ) فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة . وقرأ ( لحكمهما ) ابن عباس فالضمير لداود وسليمان . ومعنى ( شاهدين ) لا يخفى علينا منه شيء ولا يغيب قال الزمخشري ( وإن قلت ) ما وجه كل واحدة من الحكومتين ( قلت ) أم وجه حكومة داود فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند الشافعي يبيعه في ذلك أو يفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث ، ووجه حكومة سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان .

فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها ؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرون فيه ضمانا بالليل والنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، والشافعي يوجب الضمان . انتهى .

والظاهر أن كلا من الحكمين صواب لقوله ( وكلا آتينا حكما وعلما ) . والظاهر أن ( يسبحن ) جملة حالية من ( الجبال ) أي مسبحات . وقيل : استئناف كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : ( يسبحن ) قيل : كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه . وقيل : كانت تسير معه حيث سار ، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك ، وكان داود وحده يسمعه قاله يحيـى بن سلام . وقيل : كل واحد . قال قتادة : ( يسبحن ) يصلين . وقيل : يسرن من السباحة . وقال الزمخشري : كما خلقه يعني الكلام في الشجرة حين كلم موسى . انتهى . وهو قول المعتزلة ينفون صفة الكلام حقيقة عن الله تعالى . وقيل : إسناد التسبيح إليهن مجاز لما كانت تسير بتسيير الله حملت من رآها على التسبيح فأسند إليها ، والأكثرون على تسبيحهن هو قول سبحان الله . وانتصب ( والطير ) عطفا على ( الجبال ) ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح . وقيل : هو مفعول معه أي يسبحن مع الطير . وقرئ ( والطير ) مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف أي مسخر لدلالة سخرنا عليه ، أو على الضمير المرفوع في ( يسبحن ) على مذهب الكوفيين وهو توجيه قراءة شاذة .

وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قدمت ( الجبال ) على ( الطير ) ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة ، وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق . انتهى . وقوله : ناطق إن عنى به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنسانا ، وإن عنى أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عنى به مصوت أي له صوت ، ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها .

وقوله : ( وكنا فاعلين ) أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب ، وهو الدرع هنا . واللبوس ما يلبس . قال الشاعر :


عليها أسود ضاريات لبوسهم سوابغ بيض لا يخرقها النبل



قال قتادة : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين . وقيل : اللبوس كل آلة السلاح من سيف ورمح ودرع وبيضة وما يجري مجرى ذلك ، وداود أول من صنع الدروع التي تسمى الزرد . قيل : نزل ملكان من السماء فمرا بداود فقال أحدهما للآخر : نعم الرجل إلا أنه [ ص: 332 ] يأكل من بيت المال ، فسأل الله أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدروع امتن تعالى عليه بإيتائه حكما وعلما وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس ، وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ أسند تعليمها إياه إليه تعالى .

ثم امتن علينا بها بقوله : ( لتحصنكم من بأسكم ) أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوكم . وقرئ ( لبوس ) بضم اللام والجمهور بفتحها . وقرأ الجمهور : ليحصنكم بياء الغيبة أي الله فيكون التفاتا إذ جاء بعد ضمير متكلم في ( وعلمناه ) ويدل عليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالنون وهي قراءة أبي حنيفة ومسعود بن صالح ورويس والجعفي وهارون ويونس والمنقر كلهم عن أبي عمرو ليحصنكم داود ، واللبوس قيل أو التعليم . وقرأ ابن عامر وحفص والحسن وسلام وأبو جعفر وشيبة وزيد بن علي بالتاء أي ( لتحصنكم ) الصنعة أو اللبوس على معنى الدرع ودرع الحديد مؤنثة وكل هذه القراءات الثلاث بإسكان الحاء والتخفيف . وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء من تحت وفتح الحاء وتشديد الصاد ، وابن وثاب والأعمش بالتاء من فوق والتشديد واللام في ( لكم ) يجوز أن تكون للتعليل فتتعلق بعلمناه ، أي لأجلكم وتكون ( لتحصنكم ) في موضع بدل أعيد معه لام الجر إذ الفعل منصوب بإضمار أن فتتقدر بمصدر أي ( لكم ) لإحصانكم ( من بأسكم ) ويجوز أن تكون ( لكم ) صفة للبوس فتتعلق بمحذوف أي كائن لكم ، واحتمل أن يكون ليحصنكم تعليلا للتعليم فيتعلق بعلمناه ، وأن يكون تعليلا للكون المحذوف المتعلق به ( لكم ) ( فهل أنتم شاكرون ) استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم كقوله ( فهل أنتم منتهون ) أي انتهوا عما حرم الله .

ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خص به ابنه سليمان عليه السلام ، فقال ( ولسليمان الريح ) وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام ، وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال : ( وسخرنا مع داود الجبال ) وكذا جاء ( ياجبال أوبي معه ) وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره ، وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاصطحاب ، ولما كانت الريح مستخدمة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره . وقرأ الجمهور ( الريح ) مفردا بالنصب . وقرأ ابن هرمز وأبو بكر في رواية بالرفع مفردا . وقرأ الحسن وأبو رجاء الرياح بالجمع والنصب . وقرأ بالجمع والرفع أبو حيوة فالنصب على إضمار سخرنا ، والرفع على الابتداء و ( عاصفة ) حال العامل فيها سخرنا في قراءة من نصب ( الريح ) وما يتعلق به الجار في قراءة من رفع ويقال : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة ، ولغة أسد أعصفت فهي معصف ومعصفة ، ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين . فقيل : كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم يتحد الزمان . وقيل : الجمع بين الوصفين كونها رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال تعالى : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) . وقيل : الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك في التقول على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن ، وهذا القول راجع إلى اختلاف الزمان وجريها بأمره طاعتها له على حسب ما يريد ، ويأمر .

و ( الأرض ) أرض الشام وكانت مسكنه ومقر ملكه . وقيل : أرض فلسطين . وقيل : بيت المقدس . قال الكلبي : كان يركب عليها من اصطخر إلى الشام . قيل : ويحتمل أن تكون ( الأرض ) التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت ووصفت بالبركة لأنه هذا حل أرضا أصلحها بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ، ولا بركة أعظم من هذا . والظاهر : أن ( التي باركنا ) صفة للأرض . وقال منذر بن سعيد : الكلام تام عند قوله : ( إلى الأرض ) و ( التي باركنا فيها ) صفة للريح ففي الآية تقديم وتأخير ، يعني أن أصل التركيب ولسليمان الريح [ ص: 333 ] ( التي باركنا فيها ) عاصفة تجري بأمره ( إلى الأرض ) . وعن وهب : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان لا يقعد عن الغزو فيأمر بخشب فيمد والناس عليه والدواب وآلة الحرب ، ثم يأمر العاصف فيقله ثم يأمر الرخاء فتمر به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه . وعن مقاتل : نسجت له الشياطين بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ ، ووضعت له في وسطه منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء ، وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء ، وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، والطير تظله من الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح ، وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما قصه الله في كتابه وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود ، أخبر تعالى أن علمه محيط بالأشياء يجريها على ما سبق به علمه ، ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل وهي لا تدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له ، وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضا سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله : ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) ( ومن ) في موضع نصب أي وسخرنا ( ومن الشياطين من يغوصون ) أو في موضع رفع على الابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله . والظاهر أن ( من ) موصولة . وقال أبو البقاء : هي نكرة موصوفة ، وجمع الضمير في ( يغوصون ) حملا على معنى ( من ) وحسن ذلك تقدم جمع قبله كما قال الشاعر :


وإن من النسوان من هي روضة     يهيج الرياض قبلها وتصوح



لما تقدم لفظ النسوان حمل على معنى من فأنث ، ولم يقل من هو روضة والمعنى ( يغوصون ) له في البحار لاستخراج اللآلئ ، ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستخراجه وهو الجوهر ، فلذلك لم يذكر أو قال له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره ، فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور كما قال ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ) الآية . وقيل : الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم .

( وكنا لهم حافظين ) أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه . وقيل : ( حافظين ) أن يهيجوا أحدا في زمان سليمان . وقيل ( حافظين ) حتى لا يهربوا . قيل : سخر في أمر لا يحتاج إلى حفظ لأنه لا يفسد ما عمل ، وتسخير أكثف الأجسام لداود وهو الحجر إذ أنطقه بالتسبيح والحديد إذ جعل في أصابعه قوة النار حتى لان له الحديد ، وعمل منه الزرد ، وتسخير ألطف الأجسام لسليمان وهو الريح والشياطين وهم من نار . وكانوا يغوصون في الماء والماء يطفئ النار فلا يضرهم ، دليل واضح على باهر قدرته وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم ، وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر به الصادق وجب قبوله واعتقاد وجوده . انتهى .

[ ص: 334 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية