الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا قدم القارن مكة فلم يطف حتى وقف بعرفات كان رافضا لعمرته عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رافضا لعمرته ، وهو بناء على ما سبق فإن عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج فلا يلزمه طواف مقصود للعمرة ، وعندنا لا يدخل طواف الحج بل عليه أن يأتي بطواف كل واحد منهما ، ويقدم العمرة في الأداء على الحج ، وهذا يفوته بالوقوف لأن معظم أركان الحج الوقوف ، ويصير به مؤديا للحج على وجه يأمن الفوت فلو بقيت عمرته لكان يأتي بأعمالها فيصير بانيا أعمال العمرة على الحج ، وهذا ليس بصفة القران فجعلناه رافضا للعمرة لهذا ، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم { دخل عليها بسرف ، وهي تبكي قال ما يبكيك لعلك نفست فقالت نعم فقال هذا شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم فدعي عنك العمرة أو قال ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي واصنعي جميع ما يصنع [ ص: 36 ] الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فقد أمرها برفض العمرة لما تعذر عليها الطواف فلولا أنها بالوقوف تصير رافضة لعمرتها لما أمرها برفض العمرة فإن توجه إلى عرفات بعدما دخل وقت الوقوف فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان في ذلك الكتاب يقول لا يصير رافضا حتى إذا عاد من الطريق إلى مكة ، وطاف للعمرة فهو قارن ، والحسن يروي عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يصير رافضا للعمرة بالتوجه إلى عرفات ، وهذا هو القياس على مذهبه كما جعل التوجه إلى الجمعة قبل فراغ الإمام بمنزلة الشروع في الجمعة في ارتفاض الظهر ، والذي ذكره في الكتاب استحسان ، والفرق بينه ، وبين تلك المسألة أنه هناك مأمور بالسعي إلى الجمعة فيتقوى السعي بمشيه ، وهنا هو منهي عن التوجه إلى عرفات قبل طواف العمرة ، ولأن الموجب هنا للارتفاض صيرورة ركن الحج مؤدى حتى يكون ما بعده بناء العمرة على الحج .

وهذا بنفس التوجه لا يحصل ، وهناك الموجب لرفض الظهر المنافاة بينه ، وبين الجمعة ، والسعي من خصائص الجمعة فأقيم مقام الشروع في ارتفاض الظهر به فلو طاف للعمرة ثلاثة أشواط ثم ذهب فوقف بعرفات فهو رافض للعمرة أيضا لأن ركن العمرة الطواف فإذا بقي أكثره غير مؤدى جعل كأنه لم يؤد منه شيئا ، ولو كان طاف أربعة أشواط ثم وقف بعرفات لم يكن رافضا للعمرة لأنه قد أدى أكثر الطواف فيكون ذلك كأداء الكل ، ولهذا قلنا إن بعد أداء أربعة أشواط من طواف العمرة يأمن فسادها بالجماع ، وبعد أداء ثلاثة أشواط لا يأمن من ذلك ، وهذا لأن المؤدى إذا كان أكثر فالأقل في مقابلته كالعدم فكان جانب الأداء راجحا فإذا ترجح جانب الأداء فهو بالوقوف بعد ذلك ، وإن صار مؤديا للحج فإنما يصير مؤديا بعد أداء العمرة ، وإذا كان طاف ثلاثة أشواط فلم يصر رافضا بالوقوف كان مؤديا للعمرة بأداء الأشواط الأربعة بعد الوقوف فيكون بانيا للعمرة على الحج ، وكما يأمن الفساد في العمرة بطواف أربعة أشواط يأمن ارتفاضها بالوقوف ، وبعدما طاف ثلاثة أشواط لا يأمن فسادها بالجماع فلا يأمن ارتفاضها بالوقوف ، وفي الموضع الذي صار رافضا لها عليه دم لرفضها لأنه خرج منها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال فيلزمه دم اعتبارا بالمحصر ، وعليه قضاء العمرة لخروجه منها بعد صحة الشروع فيها ، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله تعالى عنها { حين أمر رسول صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم مكان عمرتها التي فاتتها ، ويسقط عنه دم القران } لأنه وجب بالجمع بين النسكين في [ ص: 37 ] الأداء ، وقد انعدم ، وفي الموضع الذي لم يصر رافضا للعمرة يتم بقية طوافها وسعيها يوم النحر ، وعليه دم القران لأنه تحقق الجمع بينهما أداء ، وإن لم يطف لعمرته حين قدم مكة ، ولكنه طاف وسعى لحجته ثم وقف بعرفة لم يكن رافضا لعمرته ، وكان طوافه ، وسعيه للعمرة دون الحج لأن المستحق عليه البداية بطواف العمرة فلا تعتبر نيته بخلاف ذلك لأن الأصل أن كل طواف مستحق عليه في وقت بجهة فأداؤه يقع عن تلك الجهة .

وإن نوى جهة أخرى كطواف الزيارة يوم النحر ، وهذا لاعتبار الطواف بالوقوف فإنه لو وجد منه الوقوف في وقته ، ونوى شيئا آخر سوى الوقوف للحج يتأدى به ركن الحج ، ولا تعتبر نيته بخلاف ذلك فكذلك في الطواف إلا أن في الطواف أصل النية شرط حتى لو عدا خلف غريم له حول البيت لا يتأدى به طوافه بخلاف الوقوف فإنه يتأدى بغير النية لأن الوقوف ركن عبادة ، وليس بعبادة مقصودة ، ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل تلك العبادة يغني عن اشتراط النية في ركنها والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية فيه ، ويسقط اعتبار نية الجهة لتعينه كما قلنا في صوم رمضان ، ولأن الوقوف يؤدى في إحرام مطلق فأما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الإحرام بالحلق فوجود النية في الإحرام لا يغني عن النية في الطواف ، ولكن هذا الفرق الثاني يتأتى في طواف الزيارة دون طواف العمرة ، والفرق الأول يعم الفصلين فإذا ثبت أن طوافه ، وسعيه للعمرة فهذا رجل لم يطف لحجته ، وترك طواف التحية لا يضره فعليه أن يرمل في طواف يوم النحر ، ويسعى بين الصفا والمروة . وإن كان طاف للحج وسعى أولا ثم طاف للعمرة وسعى فليس عليه شيء ، وطوافه الأول للعمرة كما هو المستحق عليه ونيته بخلاف ذلك لغو فلا يلزمه به شيء ، وإن طاف طوافين لهما ثم سعى سعيين فقد أساء بتقديمه طواف التحية على سعي العمرة ، ولا شيء عليه . أما عندهما فظاهر لأن من أصل أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجب بتقديم النسك ، وتأخيره شيء سوى الإساءة ، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقديم نسك على نسك يوجب الدم عليه على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، ولكن في هذا الموضع لا يلزمه دم ; لأن تقديم طواف التحية على سعي العمرة لا يكون أعلى من طواف التحية أصلا ، واشتغاله بطواف التحية قبل سعي العمرة لا يكون أكثر تأثيرا من اشتغاله بأكل أو نوم ، ولو أنه بين طواف العمرة وسعيها اشتغل بنوم أو أكل لم يلزمه دم فكذا إذا اشتغل بطواف التحية

التالي السابق


الخدمات العلمية