الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  32 1 - (حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة ح قال: وحدثني بشر قال: حدثنا محمد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: إن الشرك لظلم عظيم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من حيث إنه لما علم أن الظلم على أنواع وأن بعض أنواع الظلم كفر وبعضها ليس بكفر فيعلم من ذلك ضرورة أن بعضها دون بعض، وأخرج هذا الحديث من طريقين إحداهما عن أبي الوليد عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، والأخرى عن بشر بن خالد عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فإن قلت: الحديث عال في الطريق الأولى لأن رجالها خمسة ورجال الثانية ستة، فلم لم يكتف بالأولى؟ قلت: إنما أخرجه بالطريق الثانية أيضا لكون محمد بن جعفر أثبت الناس في شعبة وأراد بهذا التنبيه عليه. فإن قلت: اللفظ الذي ساقه لمن من شيخيه؟ قلت: اللفظ لبشر بن خالد، وكذلك أخرجه النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة، وهو عند البخاري في تفسير الأنعام، وأما لفظ ابن الوليد فساقه البخاري في قصة لقمان بلفظ: (أينا لم يلبس إيمانه بظلم)، وزاد فيه أبو نعيم في (مستخرجه) من طريق سليمان بن حرب عن شعبة بعد قوله " إن الشرك لظلم عظيم "، فطابت أنفسنا.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ثمانية: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي الباهلي البصري، وقد مر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: شعبة بن الحجاج، وقد مر ذكره أيضا.

                                                                                                                                                                                  الثالث: بشر بكسر الباء وسكون الشين المعجمة ابن خالد العسكري أبو محمد الفارض، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال: ثقة، ومحمد بن يحيى بن منده ومحمد بن إسحاق بن خزيمة توفي سنة ثلاث وخمسين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  الرابع: محمد بن جعفر الهذلي مولاهم البصري صاحب الكراديس المعروف بغندر وسمع السفيانين وشعبة وجالسه نحوا من عشرين سنة، وكان شعبة زوج أمه، روى عنه أحمد وعلي بن المديني وبندار وخلق كثير، صام خمسين سنة يوما ويوما، وقال يحيى بن معين: كان من أصح الناس كتابا، وقال أبو حاتم: صدوق، وهو في شعبة ثقة، وغندر لقب له لقبه به ابن جريج لما قدم البصرة وحدث عن الحسن فجعل محمد يكثر التشغيب عليه، فقال: اسكت يا غندر، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا [ ص: 214 ] وزعم أبو جعفر النحاس في كتاب (الاشتقاق) أنه من الغدر وأن نونه زائدة، والمشهور في داله الفتح، وحكى الجوهري ضمها، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، قاله أبو داود، وقيل سنة أربع، وقال ابن سعد سنة أربع ومائتين، وقد تلقب عشرة أنفس بغندر.

                                                                                                                                                                                  الخامس: سليمان بن مهران أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي الأعمش، وكاهل هو أسد بن خزيمة، يقال أصله من طبرستان من قرية يقال لها دباوند بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الألف وفتح الواو وسكون النون، وفي آخره دال مهملة ولد بها الأعمش وجاء به أبوه حميلا إلى الكوفة فاشتراه رجل من بني أسد فأعتقه، وقال الترمذي في (جامعه) في باب الاستتار عند الحاجة عن الأعمش إنه قال كان أبي حميلا فورثه مسروق فالحميل على هذا أبوه، والحميل الذي يحمل من بلده صغيرا ولم يولد في الإسلام وظهر للأعمش أربعة الآف حديث ولم يكن له كتاب وكان فصيحا لم يلحن قط، وكان أبوه من سبي الديلم، يقال إنه شهد قتل الحسين رضي الله عنه وإن الأعمش ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وقال البخاري: ولد سنة ستين ومات سنة ثمان وأربعين ومائة، رأى أنسا، قيل وأبا بكرة، وروى عن عبد الله بن أبي أوفى، وقال الشيخ قطب الدين في (شرحه) رأى أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى ولم يثبت له سماع من أحدهما، وسمع أبا وائل ومعرورا ومجاهدا وإبراهيم النخعي والتيمي والشعبي وخلقا.

                                                                                                                                                                                  روى عنه السبيعي وإبراهيم التيمي والثوري وشعبة ويحيى القطان وسفيان بن عيينة وخلق سواهم، وقال يحيى القطان: الأعمش من النساك المحافظين على الصف الأول، وكان علامة الإسلام، وقال وكيع: بقي الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، وكان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف المصحف، سماه المصحف لصدقه، وكان يسمى سيد المحدثين وكان فيه تشيع ونسب إلى التدليس، وقد عنعن هذا الحديث عن إبراهيم ولم ير في جميع الطرق التي فيها رواية الأعمش للبخاري ومسلم وغيرهما أنه صرح بالتحديث أو الإخبار إلا في رواية حفص بن غياث عن الأعمش الحديث المذكور في رواية البخاري في قصة إبراهيم عليه السلام على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: المعنعن إذا كان مدلسا لا يحمل حديثه على السماع إلا أن يبين فيقول: حدثنا أو أخبرنا أو سمعت أو ما يدل على التحديث. قلت: قال ابن الصلاح وغيره ما كان في الصحيحين من ذلك عن المدلسين كالسفيانين والأعمش وقتادة وغيرهم، فمحمول على ثبوت السماع عند البخاري ومسلم من طريق آخر، وقد ذكر الخطيب عن بعض الحفاظ أن الأعمش يدلس عن غير الثقة بخلاف سفيان فإنه إنما يدلس عن ثقة، وإذا كان كذلك فلا بد أن يبين حتى يعرف والله أعلم، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  السادس: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك بن النخع النخعي أبو عمران الكوفي فقيه أهل الكوفة دخل على عائشة رضي الله عنها ولم يثبت منها له سماع، وقال العجلي: أدرك جماعة من الصحابة ولم يحدث من أحد منهم وكان ثقة مفتي أهل زمانه هو والشعبي، وسمع علقمة والأسود بن زيد وخالدا ومسروقا وخلقا كثيرا، روى عنه الشعبي ومنصور والأعمش وغيرهم، وكان أعور، وقال الشعبي: لما مات إبراهيم ما ترك أحدا أعلم منه ولا أفقه، فقيل له: ولا الحسن وابن سيرين؟ قال: ولا هما، ولا من أهل البصرة ولا من أهل الكوفة والحجاز، وفي رواية: ولا بالشام. قال الأعمش: كان إبراهيم صيرفي الحديث، مات وهو مختف من الحجاج ولم يحضر جنازته إلا سبعة أنفس سنة ست وتسعين وهو ابن تسع وقيل ثمان وخمسين، قيل: ولد سنة ثمان وثلاثين، وقيل: سنة خمسين، فيكون على هذا توفي ابن ست وأربعين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  السابع: علقمة بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخعي أبو شبل الكوفي عم الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد خالي إبراهيم بن يزيد النخعي; لأن أم إبراهيم مليكة ابنة يزيد وهي أخت الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد، روى عن أبي بكر رضي الله عنه وسمع عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وروى عنه أبو وائل وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وغيرهم، اتفق على جلالته وتوثيقه، وقال إبراهيم النخعي: كان علقمة يشبه عبد الله بن مسعود، وقال أبو إسحاق: كان علقمة من الربانيين، وقال أبو قيس: رأيت إبراهيم آخذا بركاب علقمة، مات سنة اثنتين وستين، وقيل وسبعين ولم يولد له قط روى له الجماعة إلا ابن ماجه.

                                                                                                                                                                                  الثامن: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد مر ذكره في أول كتاب الإيمان، وفي الصحابة ثلاثة عبد الله بن مسعود أحدهم هذا والثاني أبو عمرو الثقفي أخو أبي عبيدة استشهد يوم الجسر والثالث غفاري له حديث، وفيهم رابع اختلف في اسمه فقيل ابن مسعدة، وقيل ابن مسعود الفزاري.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 215 ] (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث بصورة الجمع وصورة الإفراد والعنعنة; ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين الكوفيين يروي بعضهم عن بعض، الأعمش وإبراهيم وعلقمة، وهذا الإسناد أحد ما قيل فيه أنه أصح الأسانيد; ومنها أن رواته كلهم حفاظ أئمة أجلاء; ومنها أن في بعض النسخ قبل قوله " وحدثني بشر " صورة ح أشار إلى التحويل حائلا بين الإسنادين، فهذا إن كان من المصنف فهي تدل على التحويل قطعا، وإن كان من بعض الرواة قد زادها فيحتمل وجهين: أحدهما أن تكون مهملة دالة على التحويل كما ذكرناه، والآخر أن تكون معجمة دالة على البخاري بطريق الرمز أي قال البخاري: وحدثني بشر والرواية الصحيحة بواو العطف، فافهم.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء عليهم السلام عن أبي الوليد عن شعبة، وعن بشر بن خالد عن غندر عن شعبة، وفي التفسير عن بندار عن ابن عدي عن شعبة، وفي أحاديث الأنبياء عليهم السلام عن ابن حفص بن غياث عن أبيه، وعن إسحاق عن عيسى بن يونس، وفي التفسير واستتابة المرتدين عن قتيبة عن جرير; وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر عن ابن إدريس وأبي معاوية ووكيع، وعن إسحاق وابن خشرم عن عيسى، وعن منجاب عن علي بن مسهر، وعن أبي كريب عن ابن إدريس كلهم عن الأعمش عن إبراهيم به، وفي بعض طرق البخاري لما نزلت الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس كذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم وأخرجه الترمذي أيضا.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات والإعراب); قوله " لم يلبسوا " من باب لبست الأمر ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل إذا خلطته، وفي لبس الثوب بضده يعني بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل، والمصدر من الأول لبس بفتح اللام ومن الثاني لبس بالضم، وفي (العباب) قال الله تعالى: وللبسنا عليهم ما يلبسون أي شبهنا عليهم وأضللناهم كما ضلوا، وقال ابن عرفة في قوله تعالى: ولا تلبسوا الحق بالباطل أي لا تخلطوه به، وقوله تعالى: أو يلبسكم شيعا أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق، وقوله جل ذكره: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي لم يخلطوه بشرك; قال العجاج:


                                                                                                                                                                                  ويفصلون اللبس بعد اللبس من الأمور الربس بعد الربس



                                                                                                                                                                                  واللبس أيضا اختلاط الظلام، وفي الأمر لبسة بالضم أي شبهة وليس بواضح; قوله " بظلم " الظلم في أصل الوضع وضع الشيء في غير موضعه، يقال: ظلمه يظلمه ظلما ومظلمة والظلامة والظليمة والمظلمة ما تطلبه عند المظالم، وهو اسم ما أخذ منك، وتظلمني فلان أي ظلمني مالي; قوله " لما " بمعنى حين، وقوله " قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " جوابه; قوله " نزلت " فعل وفاعله; قوله " الذين آمنوا "، الآية، والتأنيث باعتبار الآية، والتقدير لما نزلت هذه الآية الذين آمنوا إلى آخرها; قوله " أينا " كلام إضافي مبتدأ، وقوله " لم يظلم " خبره والجملة مقول القول; قوله " فأنزل الله " عطف على " قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، والفاء معناها التعقيب، وقد تكون بمعنى ثم يعني للتراخي والذي تقتضيه الحال أنها ههنا على أصلها.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني); قوله " أينا لم يظلم "، وفي بعض النسخ: (أينا لم يظلم نفسه) بزيادة نفسه، والمعنى أن الصحابة فهموا الظلم على الإطلاق فشق عليهم ذلك، فبين الله تعالى أن المراد الظلم المقيد وهو الظلم الذي لا ظلم بعده، وقال الخطابي: إنما شق عليهم لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس، والافتيات السبق إلى الشيء وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي فظنوا أن المراد ههنا معناه الظاهر، فأنزل الله تعالى الآية، ومن جعل العبادة وأثبت الربوبية لغير الله تعالى فهو ظالم بل أظلم الظالمين، وقال التيمي: معنى الآية لم يفسدوا إيمانهم ويبطلوه بكفر لأن الخلط بينهما لا يتصور، أي لم يخلطوا صفة الكفر بصفة الإيمان فتحصل لهم صفتان إيمان متقدم وكفر متأخر بأن كفروا بعد إيمانهم، ويجوز أن يكون معناه ينافقوا فيجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا وإن كانا لا يجتمعان. قلت: اختلفت ألفاظ الحديث في هذا، ففي رواية جرير عن الأعمش: (فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس كذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان)، وفي رواية وكيع عنه: (فقال: ليس كما تظنون)، وفي رواية عيسى بن يونس عنه: (إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان)، وفي رواية شعبة عنه ما مضى ذكره ههنا فبين [ ص: 216 ] رواية شعبة عنه وبين روايات جرير ووكيع وعيسى بن يونس اختلاف، والتوفيق بينهما أن يجعل إحداهما مبينة للأخرى فيكون المعنى لما شق عليهم أنزل الله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق في إحداهما يراد به المقيد في الأخرى وهو الشرك، فالصحابة رضي الله عنهم حملوا اللفظ على عمومه فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كما ظننتم، بل كما قال لقمان عليه السلام. فإن قلت: من أين حملوه على العموم؟ قلت: لأن قوله " بظلم " نكرة في سياق النفي فاقتضت التعميم. فإن قلت: من أين لزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا حتى شق عليهم. قلت: من تقديم لهم على الأمن في قوله: أولئك لهم الأمن أي لهم الأمن لا لغيرهم ومن تقديم " وهم " على مهتدون في قوله " وهم مهتدون "، وقال الزمخشري في: كلمة هو قائلها إنه للتخصيص أي هو قائلها لا غيره. فإن قلت: لا يلزم من قوله تعالى: إن الشرك لظلم عظيم إن غير الشرك لا يكون ظلما. قلت: التنوين في بظلم للتعظيم، فكأنه قال: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، فلما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك، وقد ورد ذلك صريحا عند البخاري من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه: (قلنا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك أولم تسمعوا إلى قول لقمان)، فذكر الآية، فإن قلت: لم ينحصر الظلم العظيم على الشرك؟ قلت: عظمة هذا الظلم معلومة بنص الشارع وعظمة غيره غير معلومة والأصل عدمها.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام): الأول: إن العام يطلق ويراد به الخاص بخلاف قول أهل الظاهر، فحمل الصحابة ذلك على جميع أنواع الظلم، فبين الله تعالى أن المراد نوع منه، وحكى الماوردي في الظلم في الآية قولين: أحدهما أن المراد منه الشرك وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود عملا بهذا الحديث، قال: واختلفوا على الثاني فقيل إنها عامة ويؤيده ما رواه عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي: (أن رجلا سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت حتى جاء رجل فأسلم، فلم يلبث قليلا حتى استشهد فقال عليه السلام: هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)، وقيل: إنها خاصة نزلت في إبراهيم عليه السلام وليس في هذه الآية فيها شيء قاله علي رضي الله عنه، وقيل: إنها فيمن هاجر إلى المدينة قاله عكرمة، قلت: جعل صاحب (الكشاف) هذه الآية جوابا عن السؤال أعني; قوله: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وأراد بالفريقين فريقي المشركين والموحدين، وفسر الشرك بالمعصية فقال: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، ثم قال: وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وهذا لا يمشي إلا على قول من قال: إنها خاصة نزلت في إبراهيم.

                                                                                                                                                                                  الثاني: إن المفسر يقضي على المجمل. الثالث: إثبات العموم. الرابع: عموم النكرة في سياق النفي لفهم الصحابة وتقرير الشارع عليه وبيانه لهم التخصيص، وأنكر القاضي العموم فقال: حملوه على أظهر معانيه فإنه وإن كان يطلق على الكفر وغيره لغة وشرعا، فعرف الاستعمال فيه العدول عن الحق في غير الكفر، كما أن لفظ الكفر يطلق على معان من جحد النعم والستر لكن الغالب عند مجرد الإطلاق حمله على ضد الإيمان، فلما ورد لفظ الظلم من غير قرينة حمله الصحابة على أظهر وجوهه، فليس فيه دلالة العموم. قلت: يرد هذا ما ذكرناه من أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ورواية البخاري أيضا.

                                                                                                                                                                                  الخامس: استنبط منه المازري والنووي وغيرهما تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وقال القاضي عياض في الرد على ذلك بأنه ليس في هذه القضية تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة المؤخرة إلى البيان، لكنهم لما أشفقوا بين لهم المراد، وقال بعضهم: ويمكن أن يقال المعتقد أيضا يحتاج إلى البيان، فما انتفت الحاجة، والحق أن في القضية تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. قلت: لو فهم هذا القائل كلام القاضي لما استدرك عليه بما قاله، فالقاضي يقول اعتقاد التصديق لازم إلخ، فالذي يفهم هذا الكلام كيف يقول: فما انتفت الحاجة، وقوله والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب ليس بحق؟ لأن الآية ليس فيها خطاب، والخطاب من باب الإنشاء، والآية إخبار على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع عند جماعة، وقيد الكرخي جوازه في المجمل على ما عرف [ ص: 217 ] في موضعه. السادس: إن المعاصي لا تكون كفرا، وهو مذهب أهل الحق وإن الظلم مختلف في ذاته كما دل عليه ترجمته. السابع: احتج به من قال الكلام حكمه العموم حتى يأتي دليل الخصوص. الثامن: أن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة تقتضي ذلك، فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية