الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  33 (باب علامات المنافق)

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الكلام فيه من وجوه: الأول: وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول مترجم على أن الظلم في ذاته مختلف وله أنواع، وهذا الباب أيضا مشتمل على بيان أنواع النفاق وأيضا فالنفاق نوع من أنواع الظلم، ولما قال في الباب الأول: ظلم دون ظلم، عقبه ببيان نوع منه، وقول الكرماني: وأما مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن يبين أن هذه علامة عدم الإيمان أو يعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، ليس بمناسب، بل المناسب ذكر المناسبة بين كل بابين متواليين، فذكر المناسبة بين بابين بينهما أبواب غير مناسب، وقال النووي: مراد البخاري بذكر هذا هنا أن المعاصي تنقص الإيمان كما أن الطاعة تزيده. قلت: هذا أيضا غير موجه في ذكر المناسبة على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  الثاني: إن لفظ " باب " معرب لأنه خبر مبتدأ محذوف وهو مضاف إلى ما بعده، تقديره هذا باب في بيان علامات المنافق، والعلامات جمع علامة وهي التي يستدل بها على الشيء ومنه سمي الجبل علامة وعلما أيضا. فإن قلت: كان المناسب أن يقول باب آيات المنافق مطابقة للفظ الحديث. قلت: لعله نبه بذلك على ما جاء في رواية أخرجها أبو عوانة في صحيحه بلفظ " علامات المنافق " الثالث لفظ المنافق من النفاق، وزعم ابن سيده أنه الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من آخر مشتق من نافقاء اليربوع، فإن إحدى جحريه يقال لها النافقاء وهو موضع يرققه بحيث إذا ضرب رأسه عليها ينشق وهو يكتمها ويظهر غيرها، فإذا أتى الصائد إليه من قبل القاصعاء وهو جحره الظاهر الذي يقصع فيه أي يدخل ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج، فكما أن اليربوع يكتم النافقاء ويظهر القاصعاء كذلك المنافق يكتم الكفر ويظهر الإيمان، أو يدخل في الشرع من باب ويخرج من آخر ويناسبه من وجه آخر وهو أن النافقاء ظاهره يرى كالأرض وباطنه الحفرة فيها فكذا المنافق، وقال القزاز: يقال نافق اليربوع ينافق فهو منافق إذا فعل ذلك، وكذلك نفق ينفق فهو منافق من هذا، وقيل المنافق مأخوذ من النفق وهو السرب تحت الأرض، يراد أنه يستتر بالإسلام كما يستتر صاحب النفق فيه وجمع النفق أنفاق.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سيده: النافقاء والنفقة جحر الضب واليربوع، والحاصل أن المنافق هو المظهر لما يبطن خلافه، وفي الاصطلاح هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه. قلت: هذا التفسير تفسير الزنديق اليوم، ولهذا قال القرطبي عن مالك: إن النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة اليوم عندنا. فإن قيل: المنافق من باب المفاعلة وأصلها أن تكون لاثنين. أجيب بأن ما جاء على هذا عندهم لأنه بمنزلة خادع وراوغ، وقيل بل لأنه يقابل بقبول الإسلام منه فإن علم أنه منافق فقد صار الفعل من اثنين وسمي الثاني باسم الأول مجازا للازدواج كقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه

                                                                                                                                                                                  واعلم أن حقيقة النفاق لا تعلم إلا بتقسيم نذكره، وهو أن أحوال القلب أربعة وهي الاعتقاد المطلق عن الدليل وهو العلم، والاعتقاد المطلق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد، والاعتقاد الغير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن ذلك، فهذه أربعة أقسام، وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار والإنكار والسكوت، فيحصل من ذلك اثنا عشر قسما، الأول: ما إذا حصل العرفان بالقلب والإقرار باللسان، فهذا الإقرار إن كان اختياريا فصاحبه مؤمن حقا، وإن كان اضطراريا فهو كافر في الظاهر. الثاني: أن يحصل العرفان القلبي والإنكار اللساني، فهذا الإنكار إن كان اضطراريا فصاحبه مسلم وإن كان اختياريا كان كافرا معاندا. الثالث: أن يحصل العرفان القلبي ويكون اللسان خاليا عن الإنكار والإقرار، فهذا السكوت إما أن يكون اضطراريا أو اختياريا، فإن كان اضطراريا فهو مسلم حقا، ومنه ما إذا عرف الله تعالى بدليله ثم لما تمم النظر مات فجأة، فهذا مؤمن قطعا، وإن كان اختياريا فهو كمن عرف الله بدليله ثم إنه لم يأت بالإقرار، فقال الغزالي: إنه مؤمن. الرابع: اعتقاد المقلد لا يخلو معه [ ص: 218 ] الإقرار أو الإنكار أو السكوت، فإن كان معه الإقرار وكان اختياريا فهو إيمان المقلد وهو صحيح خلافا للبعض، وإن كان اضطراريا فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا هناك بالإيمان وجب أن نحكم ههنا بالنفاق وهو القسم الخامس. السادس: أن يكون معه السكوت فحكمه حكم القسم الثالث اضطراريا أو اختياريا.

                                                                                                                                                                                  السابع: الإنكار القلبي فإما أن يوجد معه الإقرار أو الإنكار أو السكوت، فإن كان معه الإقرار فإن كان اضطراريا فهو منافق وإن كان اختياريا فهو كفر الجحود والعناد، وهو أيضا قسم من النفاق وهو القسم الثامن. التاسع: أن يوجد الإنكار باللسان مع الإنكار القلبي، فهذا كافر. العاشر: القلبي الخالي، فإن كان معه الإقرار فإن كان اختياريا يخرج من الكفر وإن كان اضطراريا لم يكفر. الحادي عشر: القلب الخالي مع الإنكار باللسان، فحكمه على العكس مع حكم القسم العاشر. الثاني عشر: القلب الخالي مع اللسان الخالي، فهذا إن كان في مهلة النظر فذاك هو الواجب، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا يحكم بالنفاق البتة، وقد ظهر من هذا أن النفاق الذي لا يطابق ظاهره باطنه، فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية