الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 265 - 266 ] ويجوز المسح على الجبائر وإن شدها على غير وضوء ) { ; لأنه عليه الصلاة والسلام فعله ، وأمر عليا رضي الله عنه به }; ولأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف ، فكان أولى بشرع المسح ، ويكتفي بالمسح على أكثرها ، وذكره الحسن رحمه الله تعالى ، ولا يتوقت لعدم التوقيف بالتوقيت ( وإن سقطت الجبيرة عن غير برء لا يبطل المسح ) ; لأن العذر قائم ، والمسح عليها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقيا ( وإن سقطت عن برء بطل ) لزوال العذر ، وإن كان في الصلاة استقبل ; لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل ، والله أعلم .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث السادس : روي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الجبائر ، وأمر عليا بذلك } ، قلت : هما حديثان : فحديث مسحه عليه السلام على الجبائر أخرجه الدارقطني في " سننه " عن أبي عمارة محمد بن أحمد بن المهدي ثنا عبدوس بن مالك العطار ثنا شبانة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : أبو عمارة هذا ضعيف جدا ، ولا يصح هذا الحديث [ ص: 267 ] مرفوعا انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } روى الطبراني في " معجمه " حدثنا إسحاق بن داود الصواف ثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل ثنا حفص بن عمر عن راشد بن سعد . ومكحول عن أبي أمامة { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رماه ابن قميئة يوم أحد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حل عن عصابته ومسح عليها بالوضوء }انتهى .

                                                                                                        وأما حديث علي فرواه ابن ماجه في " سننه من حديث عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب ، قال : { انكسرت إحدى زندي ، فسألت النبي ، فأمرني أن أمسح على الجبائر }انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي في " سننهما " قال الدارقطني : وعمرو بن خالد : أبو خالد الواسطي متروك ، وقال البيهقي : وقد تابع عمرو بن خالد عليه عمر بن موسى بن وجيه ، فرواه عن زيد بن علي مثله ، وابن وجيه متروك ، منسوب إلى الوضع انتهى .

                                                                                                        وقال ابن أبي حاتم في " علله " : سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه الحديث ، فقال : هذا حديث باطل لا أصل له ، وعمرو بن خالد متروك الحديث انتهى .

                                                                                                        وقال ابن القطان في " كتابه " : قال إسحاق بن راهويه : عمرو بن خالد كان يضع الحديث انتهى .

                                                                                                        وقال ابن معين : هو كذاب غير ثقة ولا مأمون ، انتهى .

                                                                                                        ورواه العقيلي في " ضعفائه " وأعله بعمرو بن خالد ، وقال : لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به ، ونقل تكذيبه عن جماعة . أحاديث الباب .

                                                                                                        روى أبو داود في " سننه " من حديث الزبير بن خريق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر ، قال : { خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، قال : فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ، فقال : قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها [ ص: 268 ] ويغسل سائر جسده }انتهى .

                                                                                                        قال البيهقي في " المعرفة " : هذا الحديث أصح ما روي في هذا الباب ، مع اختلاف في إسناده قد بيناه في " كتاب السنن " . انتهى .

                                                                                                        وأخرجه أبو داود أيضا عن الأوزاعي أنه بلغه عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن عباس ، قال : { أصاب رجلا جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم احتلم فأمر بالاغتسال فاغتسل فمات ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره } ، وتكلم عليه الدارقطني فقال : لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق ، وليس بالقوي ، وخالفه الأوزاعي ، فرواه عن عطاء عن ابن عباس ، وهو الصواب ، واختلف عن الأوزاعي ، فقيل : عن عطاء ، وقيل : بلغني عن عطاء ، وأرسله الأوزاعي بآخره ، فقال : عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في " سننه " عن أبي الوليد خالد بن يزيد المكي ثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثنا الحسين بن زيد عن أبيه عن { علي بن أبي طالب ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجبائر تكون على الكسر كيف يتوضأ صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب ؟ قال : يمسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فإن كان في برد يخاف على نفسه إن اغتسل ؟ فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }يتيمم إذا خاف }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : وأبو الوليد خالد بن يزيد ضعيف ، وقال البيهقي : هذا مرسل ، وأبو الوليد ضعيف ، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء ، انتهى .

                                                                                                        أحاديث مسح النعلين فيه عن ابن عباس وابن عمر ، فحديث ابن عباس رواه [ ص: 269 ] ابن عدي ، ثم البيهقي من جهته عن رواد بن الجراح عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة ومسح على نعليه }انتهى قال البيهقي : هكذا رواه رواد ، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير : هذا أحدها ، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة . قال الشيخ تقي الدين في " الإمام " : ورواد هذا ليس بالقوي انتهى .

                                                                                                        ثم ساقه البيهقي عن زيد بن الحباب عن سفيان هكذا : { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على النعلين } ، وقال : الصحيح رواية الجماعة ، فقد رواه سليمان بن بلال ومحمد بن عجلان وورقاء بن عمر ومحمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم ، فحكوا في الحديث غسله رجليه ، والحديث واحد ، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير ، مع فضل من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه .

                                                                                                        قال في " الإمام " : وحديث زيد بن الحباب هذا من أجود ما ذكر البيهقي في الباب ، وزيد بن الحباب ذكر ابن عدي عن ابن معين أنه قال : أحاديث زيد بن الحباب عن الثوري مقلوبة ، قال ابن عدي : وهو من أثبات مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه ، والذي قاله ابن معين ، إن أحاديثه عن الثوري مقلوبة إنما له عن الثوري أحاديث تستغرب بذلك الإسناد ، والبعض يرفعه ، ولا يرفعه غيره ، وباقي أحاديثه كلها مستقيمة ، وذكر ابن عدي لزيد بن الحباب أحاديث ليس فيها هذا ، وإذا كان زيد ثقة صدوقا كان الحديث مما ينفرد به الثقة .

                                                                                                        وحديث ابن عمر رواه البزار في " مسنده " حدثنا إبراهيم بن سعيد ثنا روح بن عبادة عن ابن أبي ذئب عن نافع { أن ابن عمر كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ، ويقول : كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل }انتهى .

                                                                                                        قال البزار : لا نعلم رواه عن نافع إلا ابن أبي ذئب ، ولا عن ابن أبي ذئب إلا روح ، وإنما كان يمسح عليهما ; لأنه توضأ من غير حدث ، وكان يتوضأ لكل صلاة من غير حدث ، فهذا معناه انتهى كلامه .

                                                                                                        فأجاب الناس عن أحاديث المسح على النعلين بثلاثة أجوبة : أحدها : أنه كان [ ص: 270 ] من النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء المتطوع به يؤيده ما أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " وترجم عليه " باب ذكر الدليل " على أن مسح النبي صلى الله عليه وسلم على النعلين كان في وضوء تطوع لا من حدث عن سفيان عن السدي عن عبد خير { عن علي أنه دعا بكوز من ماء ، ثم توضأ وضوءا خفيفا ، ومسح على نعليه ، ثم قال : هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم للطاهر ما لم يحدث } ، قال في " الإمام " : وهذا الحديث أخرجه أحمد بن عبيد الصفار في " مسنده " بزيادة لفظ : وفيه ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحدث انتهى .

                                                                                                        قلت : وهكذا فعل ابن حبان في " صحيحه " في النوع الثالث والأربعين ، من القسم الخامس ، فأخرج عن أوس بن أبي أوس أنه توضأ ومسح على النعلين ، وقال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عليهما }.

                                                                                                        قال ابن حبان : وهذا إنما كان في وضوء النفل ، ثم استدل عليه بحديث أخرجه عن النزال بن سبرة { عن علي أنه توضأ ومسح برجليه ، وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ، وهذا وضوء من لم يحدث }وانتهى .

                                                                                                        وقد تقدم للبزار في حديث ابن عمر نحو ذلك . الجواب الثاني : قاله البيهقي : إن معنى مسح على نعليه أي غسلهما في النعل ، واستدل بحديث الصحيحين في النعال ، وأن ابن عيينة زاد فيه : ويمسح عليها ، ثم ساقه بسنده إلى سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن { عبيد بن جريج ، قال : قيل لابن عمر : رأيناك تفعل شيئا لم نر أحدا يفعله غيرك ، قال : وما هو ؟ قال : رأيناك تلبس النعال السبتية ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما ، ويتوضأ فيها ، ثم يمسح عليهما } ، قال في " الإمام " : وفي هذا الاستدلال نظر ، والذي يظهر أنه يتوضأ ، ثم يلبسهما وكأنه أخذ لفظة : فيها على ظاهرها ، ولكن يحتاج إلى أن يكون لفظة : يتوضأ لا تطلق إلا على الغسل انتهى كلامه .

                                                                                                        الجواب الثالث : قاله الطحاوي في " كتاب شرح الآثار " وهو أنه مسح على النعلين والجوربين ، وكان مسحه على الجوربين هو الذي يطهر به ، ومسحه على النعلين فضلا ، واستشهد بحديث أبي موسى الأشعري { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه }. وبحديث المغيرة بن شعبة نحوه ، روى الأول : ابن ماجه .

                                                                                                        والثاني : رواه أبو داود . والترمذي ، وقد تقدم الكلام عليهما في حديث الجوربين . [ ص: 271 ] أحاديث اشتراط اللبس على طهارة كاملة ، استدل الشافعية على ذلك بأحاديث : منها في " الصحيحين " حديث المغيرة : " { دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين }" وفي غير الصحيح من ذلك كثير ، وليس فيها حجة ; لأنا نقول بعدم جواز المسح إلا بعد غسل الرجل ، ومحل الخلاف يظهر في مسألتين :

                                                                                                        إحداهما : إذا أحدث ، ثم غسل رجليه ، ثم لبس الخفين ، ثم مسح عليهما ، ثم أكمل وضوءه .

                                                                                                        الثانية : إذا أحدث ، ثم توضأ ، فلما غسل إحدى رجليه لبس عليها الخف ، ثم غسل الأخرى ، ثم لبس عليها الخف ، فإن هذا المسح عندنا جائز في الصورتين ، خلافا لهم . هذا تحرير مذهبنا ، وهم يطلقون النقل عن مذهبنا ، ويقولون : الحنفية لا يشترطون كمال الطهارة في المسح ، وهذا يدخل فيه ما لو توضأ ولم يغسل رجليه ، ثم لبس الخفين ، وليس كذلك عندنا بل لا يجوز له المسح في هذه الصورة ; لأن الحدث باق في القدم ، كما ذكره في " الكتاب " وأقرب ما استدلوا به حديث أخرجه الدارقطني عن المهاجر بن مخلد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما }. انتهى .

                                                                                                        قالوا : ووجه الحجة أن الفاء للتعقيب ، والطهارة إذا أطلقت إنما يراد بها الطهارة الكاملة ، وجوابنا أن هذا حديث ضعيف ، فإنهم تكلموا في " مهاجر بن مخلد " قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عنه ، فقال : لين الحديث ليس بذلك ثم إنه قد روي بالواو ولبس خفيه ، وعلى تقدير صحته فهو محمول على طهارة الرجلين ، والله أعلم . وأما ابتداء مدة المسح على الخفين ، ففيه ثلاثة أقوال عندنا : فقيل : من وقت اللبس ، وقيل : من وقت المسح ، وقيل : من وقت الحدث . قال ابن دقيق العيد في " الإمام " : أما من اعتبرها من وقت اللبس ، فقد استدل له بحديث صفوان بن عسال ، { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن } ، من [ ص: 272 ] حيث إنه جعل الثلاث مدة اللبس .

                                                                                                        وأما من اعتبرها من وقت المسح فبحديث أبي بكرة ، وفيه ألفاظ أقواها في مرادهم ما علق الحكم فيه بالمسح ، كالرواية التي ذكرناها من جهة عبد الرزاق عن معمر ، وفيها : { فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر : ثلاثا إذا سافرنا ، يوما وليلة إذا أقمنا } ، انتهى .

                                                                                                        قلت : وهذا اللفظ أيضا في حديث صفوان بن عسال عند أحمد في " مسنده " { أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر : ثلاثا إذا سافرنا ، وليلة إذا أقمنا } ، وفي لفظ له : وقال : { للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن يمسح على خفيه إذا أدخل رجليه على طهور ، وللمقيم يوم وليلة } ، والله أعلم .




                                                                                                        الخدمات العلمية