الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية العاشرة قوله تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون } . فيها ثلاث مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : قوله : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } : يعني من جنسكم ، يعني من الآدميين ، ردا على العرب التي كانت تعتقد أنها تتزوج الجن وتباضعها ، حتى روت أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا ، وكان يخبؤها عن البرق ، لئلا تراه فتنفر ، فلما كان في بعض الليالي لمح البرق وعاينته السعلاة [ ص: 141 ] فقالت : عمرو ، ونفرت فلم يرها أبدا ، وهذا من أكاذيبها ، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته ، ردا على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجن ، ويحيلون طعامهم ونكاحهم . وقيل : أراد به قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } حسبما تقدم بيانه في سورة الأعراف .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله : { أزواجا } : زوج المرأة هي ثانيته ، فإنه فرد ، فإذا انضافت إليه كانا زوجين ، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها ; لأنه أصلها في الوجود ، وقوامها في المعاش ، وأميرها في التصرف ، وعاقلها في النكاح ، ومطلقها من قيده ، وعاقل الصداق والنفقة عنها فيه ، وواحد من هذا كله يكفي للأصالة ، فكيف بجميعها ؟ .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : قوله : { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } : وجود البنين يكون منهما معا ، ولكنه لما كان تخلق المولود فيها ، ووجوده ذا روح وصورة بها ، وانفصاله كذلك عنها ، أضيف إليها ، ولأجله تبعها في الرق والحرية ، وصار مثلها في المالية .

                                                                                                                                                                                                              سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبو الوفاء علي بن عقيل يقول : إنما تبع الولد الأم في المالية ، وصار بحكمها في الرق والحرية ; لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ، ولا مالية فيه ، ولا منفعة مثبوتة عليه ، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها ، فلأجل ذلك تبعها ، كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل ، فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل ، فصارت نخلة ، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة ; لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها ; وهذه من البدائع .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : في تفسير قوله : { وحفدة } : وفيها ثمانية أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : أنهم الأختان ; قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 142 ] الثاني : أنهم الأصهار ; قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال محمد بن الحسن : الختن الزوج ، ومن كان من ذوي رحمه . والصهر من كان من قبل المرأة من الرجال .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : أنها ضد ذلك ; قاله ابن الأعرابي .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال الأصمعي : الختن من كان من الرجال من قبل المرأة ، والأصهار منهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                              السادس : الحفدة : أعوان الرجل وخدمه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من أعانك فقد حفدك ; وبه قال عكرمة .

                                                                                                                                                                                                              السابع : حفدة الرجل أعوانه من ولده .

                                                                                                                                                                                                              الثامن : أنه ولد الرجل وولد ولده .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : هذه الأقوال كما سردناها إما أخذت عن لغة ، وإما عن تنظير ، وإما عن اشتقاق ، وقد قال الله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } ; فالنسب ما دار بين الزوجين . والصهر ما تعلق بهما ، ويقال أختان المرأة وأصهار الرجل عرفا ولغة ، ويقال لولد الولد : الحفيد ، ويقال : حفيده يحفده بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل إذا خدمه ، ومنه قولهم في الدعاء : وإليك نسعى ونحفد . فالظاهر عندي من قوله : { بنين } أولاد الرجل من صلبه ، ومن قوله : { حفدة } أولاد ولده . وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا .

                                                                                                                                                                                                              ونقول : تقدير الآية على هذا : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومن أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . ويحتمل أن يريد به : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ، فيكون البنون من الأزواج ، والحفدة من الكل من زوج وابن ، يريد به خداما يعني أن الأزواج والبنين يخدمون الرجل بحق قواميته وأبوته . وقد قال علماؤنا : يخدم الرجل زوجه فيما خف من الخدمة ويعينها . وقد قالوا في موضع آخر : يخدمها . وقالوا في موضع آخر : ينفق على خادم واحدة .

                                                                                                                                                                                                              وفي رواية على أكثر من [ ص: 143 ] واحدة على قدر الثروة والمنزلة ; وهذا أمر دائر على العرف والعادة الذي هو أصل من أصول الشريعة ; فإن نساء الأعراب وسكان البادية يخدمن أزواجهن حتى في استعذاب الماء وسياسة الدواب . ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجه فيما خف ويعينها . وأما أهل الثروة فيخدمون أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب في ذلك ، وإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك ، فتشهد عليه أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها ، فالتزم إخدامها ; فينفذ ذلك عليه ، وتنقطع الدعوى فيه . وهذا هو القول الصحيح في الآية لما قدمناه .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن القاسم عن مالك قال : وسألته عن قول الله : { بنين وحفدة } ما الحفدة ؟ قال : الخدم والأعوان في رأي . ويروى أن الحفدة البنات يخدمن الأبوين في المنازل . ويروى أننافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن قوله : { وحفدة } قال : هم الأعوان ; من أعانك فقد حفدك . قال : فهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، وتقوله . أما سمعت قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                              حفد الولائد حولهن وألقيت بأكفهن أزمة الأجمال

                                                                                                                                                                                                              وتصريف الفعل حفد يحفد كما قدمنا حفدا وحفودا وحفدانا .

                                                                                                                                                                                                              وقال الخليل بن أحمد : إن الحفدة عند العرب الخدم ، وكفى بمالك فصاحة ، وهو محض العرب في قوله : إنهم الخدم . وبقول الخليل ، وهو ثقة في نقله عن العرب ; فخرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان . وقد روى البخاري وغيره واللفظ له عن سهل بن سعد أن { أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه ، فكانت امرأته خادمهم يومئذ ، وهي العروس ، فقال : أوتدرون ما أنقعت لرسول الله ؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور } .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 144 ] وكذلك روي { عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله ، فإذا سمع الأذان خرج } . وهذا هو قول مالك : ويعينها .

                                                                                                                                                                                                              وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان يخصف النعل ، ويقم البيت ، ويخيط الثوب } . وقد روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم { كان يعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف } . وقال { عن عائشة وقد قيل لها : ما كان رسول الله يعمل في البيت ؟ قالت : كان بشرا من البشر ، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه } .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي أبو بكر : حتى في وضوئه ; فروي من طريق عن { ابن عباس أنه بات عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت خالته ميمونة في ليلة كانت لا تصلي فيها ، فأوى رسول الله إلى فراشه ، فلما كان في جوف الليل قام فخرج إلى الحجرة فقلب في أفق السماء وجهه ، ثم قال : نامت العيون ، وغارت النجوم ، والله حي قيوم ثم عمد إلى قربة في جانب الحجرة فحل شناقها ثم توضأ فأسبغ الوضوء } . خرجه ابن حماد الحافظ ، وقد بيناه في كتاب التقصي وغيره .

                                                                                                                                                                                                              ومن أفضل ما يخدم المرء فيه نفسه العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه حتى يكون عملها كلها لوجه الله ، وعمل شروطها وأسبابها كلها منه ; فذلك أعظم للأجر إذا أمكن . وقد خرج البخاري في كتاب الصلاة عن الأسود بن يزيد : { سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قال : كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة [ ص: 145 ] خرج } . ومن الرواة من قال : إذا سمع الأذان خرج قال الإمام يعني الإقامة .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية