الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              154 (34) باب

                                                                                              من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه

                                                                                              [ 82 ] عن أبي ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، قال : فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار ، فقال أبو ذر : خابوا وخسروا ! من هم يا رسول الله ؟ قال : المسبل ، والمنان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب .

                                                                                              وفي رواية : المسبل إزاره .

                                                                                              رواه مسلم ( 106 ) ، وأبو داود ( 4087 ) و ( 4088 ) ، والترمذي ( 1211 ) ، والنسائي (7 \ 245 ) ، وابن ماجه ( 2208 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (34) ومن باب : من لا يكلمه الله يوم القيامة

                                                                                              (قوله : " لا يكلمهم الله ") أي : بكلام من يرضى عنه . ويجوز : أن يكلمهم بما يكلم به من سخط عليه ; كما جاء في كتاب البخاري : يقول الله لمانع الماء : اليوم أمنعك فضلي ; كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ، وقد حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ المؤمنون : 108 ] . وقيل : معناه : لا يكلمهم بغير واسطة ; استهانة بهم . وقيل : معنى ذلك : الإعراض عنهم ، والغضب عليهم .

                                                                                              [ ص: 303 ] ونظر الله تعالى إلى عباده : رحمته لهم ، وعطفه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وهذا النظر هو المنفي في هذا الحديث .

                                                                                              و (قوله : " ولا يزكيهم ") قال الزجاج : لا يثني عليهم ، ومن لم يثن عليه عذبه ، وقيل : لا يطهرهم من خبث أعمالهم ; لعظيم جرمهم . والعذاب الأليم : الشديد الألم الموجع .

                                                                                              و (قوله : " المسبل إزاره ") أي : الجاره خيلاء ; كما جاء في الحديث الآخر مقيدا مفسرا . والخيلاء : الكبر والعجب . ويدل هذا الحديث بمفهومه : على أن من جر ثوبه على غير وجه الخيلاء ، لم يدخل في هذا الوعيد ; ولما سمع أبو بكر هذا الحديث ، قال : يا رسول الله ، إن جانب إزاري يسترخي ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لست منهم يا أبا بكر ; خرجه البخاري .

                                                                                              وحكم الإزار والرداء والثوب في ذلك سواء ; وقد روى أبو داود من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ; فمن جر منها خيلاء ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، وفي طريق أخرى قال ابن عمر : " ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإزار ، فهو في القميص " .

                                                                                              [ ص: 304 ] قال المؤلف - رحمه الله - : وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحد الأحسن والجائز في الإزار الذي لا يجوز تعديه ; فقال فيما رواه أبو داود ، والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري : أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل ذلك ففي النار .

                                                                                              والمنان : فعال من المن ، وقد فسره في الحديث ، فقال : هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ; أي : إلا امتن به على المعطى له ، ولا شك في أن الامتنان بالعطاء ، مبطل لأجر الصدقة والعطاء ، مؤذ للمعطى له ; ولذلك قال تعالى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] .

                                                                                              وإنما كان المن كذلك ; لأنه لا يكون غالبا إلا عن البخل ، والعجب ، والكبر ، ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه ; فالبخيل : يعظم في نفسه العطية ، وإن كانت حقيرة في نفسها ، والعجب : يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة ، وأنه منعم بماله على المعطى له ، ومتفضل عليه ، وإن له عليه حقا يجب عليه مراعاته ، والكبر : يحمله على أن يحتقر المعطى له ، وإن كان في نفسه فاضلا ، وموجب ذلك كله الجهل ، ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه ; إذ قد أنعم عليه مما يعطي ، ولم يحرمه ذلك ، وجعله ممن يعطي ، ولم يجعله ممن يسأل ، ولو نظر ببصيرة لعلم أن المنة للآخذ ; لما يزيل عن المعطي من إثم المنع وذم المانع ، ومن الذنوب ، ولما يحصل له من الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، ولبسط هذا موضع آخر .

                                                                                              وقيل : المنان في هذا الحديث : هو من المن الذي هو القطع ; كما قال الله تعالى : لهم أجر غير ممنون [ فصلت : 8 ] أي : غير مقطوع ; فيكون معناه : البخيل بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحق ; كما قد جاء [ ص: 305 ] في حديث آخر : البخيل المنان ، فنعته به ، والتأويل الأول أظهر .




                                                                                              الخدمات العلمية