الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              25 [ 15 ] وعن أبي سعيد الخدري ; أن ناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر نحو ما تقدم ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع : اعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، وأعطوا الخمس من الغنائم ، وأنهاكم عن أربع : عن الدباء ، والحنتم ، والمزفت ، والنقير ، قالوا : يا نبي الله ، ما علمك بالنقير ؟ قال : بلى ; جذع تنقرونه ، فتقذفون فيه من القطيعاء - أو قال : من التمر - ثم تصبون فيه من الماء ، حتى إذا سكن غليانه شربتموه ، حتى إن أحدكم - أو إن أحدهم - ليضرب ابن عمه بالسيف ، قال : وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك ، وكنت أخبأها حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : ففيم نشرب يا رسول الله ؟ قال : في أسقية الأدم التي تلاث على أفواهها ، فقالوا : يا نبي الله ، إن أرضنا كثيرة الجرذان ، ولا تبقى فيها أسقية الأدم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وإن أكلتها الجرذان! وإن أكلتها الجرذان! وإن أكلتها الجرذان! قال : وقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة .

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 23 ) ، ومسلم ( 18 ) ، والنسائي ( 8 \ 306 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " وأنهاكم عن أربع ") أي : عن الانتباذ في هذه الأواني الأربع ; فالمنهي عنه واحد بالنوع ، وهو الانتباذ ، ثم إنه تعدد بحسب هذه الأوعية الأربع [ ص: 176 ] التي هي : الدباء ، والحنتم ، والمزفت ، والنقير ، وخص هذه بالنهي ; لأنها أوانيهم التي كانوا ينتبذون فيها : فالدباء ممدود ، وهي : القرعة كانت ينبذ فيها فيضرى ; قاله الهروي .

                                                                                              والحنتم : أصح ما قيل فيها : إنها كانت جرارا مطلية بالحنتم المعمول من الزجاج ، كانت الخمر تحمل فيها ، ونهوا عن الانتباذ فيها ; لأنها تعجل إسكار النبيذ كالدباء ، وقال عطاء : كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر ; وعلى هذا يكون النهي عنها ; لأجل أصل النجاسة ، والأول أعرف وأصح .

                                                                                              والمزفت : المطلي بالقار ، وهو نوع من الزفت . والنقير : مفسر في الحديث . والجذع : أصل النخلة ، ويجمع على جذوع . وتقذفون : تجعلون وترمون ، وأصل القذف : الرمي . والقطيعاء : نوع من التمر يقال له : الشهريز .

                                                                                              وفي رواية أخرى : وتديفون من القطيعاء ، والرواية : مضموم التاء رباعيا ، وبالدال المهملة ، وقد حكى ابن دريد : دفت الدواء وغيره بالماء أدوفه ، بإهمال الدال ، وحكى غيره أنه يقال : ذفته أذوفه ، وسم مذوف ومذيف ، ومذووف ، ومذاف ، بالذال المعجمة ، وحكى غيره أنه يقال : أداف الدواء بالدواء ; فالرواية على هذا صحيحة ، ومعناه : خلط ومزج . والأسقية : جمع سقاء ، وهو الإناء من الجلد . والأدم : جمع أديم ، وهو الجلد أيضا .

                                                                                              [ ص: 177 ] و ( " تلاث على أفواهها " ) أي : تشد وتربط . قال القتبي : أصل اللوث : الطي ، ولثت العمامة : لففتها ; وهذا نحو مما يقال : عليكم بالموكى بالقصر ، أي : السقاء الذي يربط فوه بالوكاء ، وهو الخيط .

                                                                                              و " الجرذان " جمع جرذ ، وهو الفأر ، وإنما حضهم على الانتباذ في الأسقية ; لأنها إذا غلا فيها النبيذ انشقت لرقة الجلود خلاف الأواني المذكورة ; قيل : فإنها تعجل الشدة وتخفيها .

                                                                                              و (قولهم : " إن أرضنا كثيرة الجرذان ، ولا تبقى فيها أسقية الأدم ") أي : لأن الجرذان تأكلها ; ولذلك قال لهم : وإن أكلتها الجرذان ، ولم يعذرهم بذلك ; لأنهم يمكنهم التحرز بتعليق الأسقية ، أو باتخاذ ما يهلك الفئران من حيوان أو غيره ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقد تمسك بعض أهل العلم بظاهر هذا النهي عن الانتباذ في تلك الظروف ; فحمله على التحريم ، وممن قال هذا : ابن عمر ، وابن عباس ، على ما يأتي في الأشربة ; فسنبين هنالك - إن شاء الله تعالى - أن ذلك منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام : كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية ، فانتبذوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا .

                                                                                              [ ص: 178 ] وأشج عبد القيس اسمه : المنذر بن عائذ ، بالذال المعجمة ، وقيل : المنذر بن الحارث ، وقيل : هو عبد الله بن عوف ، وقيل : قيس ، والأول أصح .

                                                                                              وقد روى أبو داود ، من حديث أم أبان بنت الوازع بن زارع ، عن جدها زارع ، وكان في وفد عبد القيس ، قال : فلما قدمنا المدينة ، تبادرنا من رواحلنا نقبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجله ، وانتظر المنذر حتى أتى عيبته ، فلبس ثوبه ، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له : إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم ، والأناة ، فقال : يا رسول الله ، أنا أتخلق بهما ، أم الله جبلني عليهما ؟ فقال : بل الله جبلك عليهما ، قال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله .

                                                                                              والحلم هنا : هو العقل ، وهو بكسر الحاء ; يقال منه : حلم الرجل يحلم ، بضم اللام : إذا صار حليما ، وتحلم : إذا تكلف ذلك . والأناة : الرفق والتثبت في الأمور ; يقال منه : تأنى الرجل يتأنى تأنيا ; ومنه قول الشاعر :


                                                                                              أناة وحلما وانتظارا بهم غدا

                                                                                              وقد يقال الحلم على الأناة . وقد ظهر من حديث أبي داود : أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك للأشج ; لما ظهر له منه من رفقه وترك عجلته . وقد روي في غير [ ص: 179 ] كتاب أبي داود : أنه لما بادر قومه إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - تأنى هو ، حتى جمع رحالهم ، وعقل ناقته ، ولبس ثيابا جددا ، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على حال هدوء وسكينة ، فأجلسه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جانبه ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس : تبايعون على أنفسكم وعلى قومكم ؟ فقال القوم : نعم ، فقال الأشج : يا رسول الله ، إنك لم تزاول الرجل على أشد عليه من دينه ، نبايعك على أنفسنا ، وترسل معنا من يدعوهم ، فمن اتبعنا كان منا ، ومن أبى قاتلناه ، قال : صدقت ; إن فيك لخصلتين . . الحديث .

                                                                                              فالأولى : هي الأناة ، والثانية : هي العقل . وفيه من الفقه : جواز مدح الرجل مشافهة بما فيه إذا أمنت عليه الفتنة ، والأصل منع ذلك ; لقوله - عليه الصلاة والسلام - : إياكم والمدح فإنه الذبح ، ولقوله للمادح : ويلك! قطعت عنق أخيك ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و (قوله : " وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك ") قيل : اسم هذا الرجل : جهم بن قثم ; قاله ابن أبي خيثمة ، وقيل : كانت الجراحة في ساقه .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله تعالى : وهذا الرجل ليس هو أشج عبد القيس ; لأن اسمهما مختلف كما ذكر هنا وفيما تقدم ; ولأن الأصل في الشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه . وفي الصحاح : رجل أشج بين الشجج : إذا كان في جبينه أثر الشجة ; وعلى هذا : يدل كون هذا الرجل غلب عليه الأشج ; لأنه إنما يغلب على [ ص: 180 ] الإنسان ما كان ظاهرا من أمره ، ولما كانت ظاهرة في وجهه ، نسبه إليها كل من كان رآه منه ; فغلب عليه ذلك ، ولو كانت في ساقه ، لما غلب عليه ذلك ، والله أعلم . وأصل الشج القطع والشق ; ومنه قولهم : شجت السفينة البحر ; أي : شقته ، وشججت المفازة : قطعتها ; قال الشاعر :


                                                                                              تشج بي العوجاء كل تنوفة كأن لها بوا بنهي تغاوله

                                                                                              وتعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال ذلك الرجل يدل على أنه عرفه بعينه ; غير أنه لم يواجهه بذلك ; حسن عشرة منه - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى كرم خلقه ; فإنه كان لا يواجه أحدا بما يكرهه .

                                                                                              وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأربع الأواني بالذكر ; لأنها أغلب أوانيهم ، ويلحق بها في النهي ما كان في معناها ; كأواني الزجاج ، والحديد ، والنحاس ، وغير ذلك مما تعجل الإسكار ; بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - في جواب قولهم : فبم نشرب يا رسول الله ؟ فقال : في أسقية الأدم ، وبدليل قوله في حديث بريدة : وكنت نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ، ولأن ما عدا تلك الأربع في معناها ، فيلحق بها على طريقة نفي الفارق ، والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية