الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إنه يعلم الجهر ) أي جهرك بالقرآن ، ( وما يخفى ) أي في نفسك من خوف التفلت ، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه ، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء . ( ونيسرك ) معطوف على ( سنقرئك ) ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض ، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني في حفظ الوحي ، وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة ، وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة ، ولما أخبر أنه يقرئه وييسره ، أمره بالتذكير ، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم ، والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى ، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش ، أي ( إن نفعت الذكرى ) في هؤلاء الطغاة العتاة ، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى ، فهو كما قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك ، فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع . وقال الفراء والنحاس ، والزهراوي ، والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني ، وقيل : إن بمعنى إذ ، كقوله : ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) أي إذ كنتم ؛ لأنه لم يخبر بكونهم الأعلين إلا بعد إيمانهم ، ( سيذكر من يخشى ) أي لا يتذكر بذكراك إلا من يخاف ، فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه ، فإذا نظر فأداه النظر والتذكر إلى الحق ، وهؤلاء هم العلماء والمؤمنون كل على قدر ما وفق له . ( ويتجنبها ) أي الذي ( الأشقى ) أي المبالغ في الشقاوة ؛ لأن الكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله ، ثم وصفه بما يئول إليه حاله في الآخرة ، وهو صلي النار ووصفها بالكبرى ، قال الحسن : النار الكبرى نار الآخرة ، والصغرى نار الدنيا . وقال الفراء : الكبرى السفلى من أطباق النار . وقيل : نار الآخرة تتفاضل ، ففيها شيء أكبر من شيء .

( ثم لا يموت ) فيستريح ، ( ولا يحيا ) حياة هنيئة ، وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذانا بتفاوت مراتب الشدة ؛ لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي [ ص: 460 ] بالنار ، ( قد أفلح ) أي فاز وظفر بالبغية ، ( من تزكى ) تطهر ، قال ابن عباس : من الشرك ، وقال : لا إله إلا الله . وقال الحسن : من كان عمله زاكيا . وقال أبو الأحوص وقتادة وجماعة : من رضخ من ماله وزكاه . ( وذكر اسم ربه ) أي وحده لم يقرنه بشيء من الأنداد ، ( فصلى ) أي أتى الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل ، والمعنى : أنه لما تذكر آمن بالله ، ثم أخبر عنه تعالى أنه أفلح من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة ، واحتج بقوله : ( وذكر اسم ربه ) على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنه جائز بكل اسم من أسمائه تعالى ، وأنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة معطوفة على الذكر الذي هو تكبيرة الافتتاح ، وهو احتجاج ضعيف ، وقال ابن عباس : ( وذكر اسم ربه ) أي معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له . وقرأ الجمهور : ( بل تؤثرون ) بتاء الخطاب للكفار ، وقيل : خطاب للبر والفاجر ، يؤثرها البر لاقتناء الثواب ، والفاجر لرغبته فيها ، وقرأ عبد الله ، وأبو رجاء ، والحسن ، والجحدري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو عمرو ، والزعفراني ، وابن مقسم : بياء الغيبة . ( إن هذا ) أي الإخبار بإفلاح من تزكى وإيثار الناس للدنيا ، قاله ابن زيد وابن جرير ، ويرجح بقرب المشار إليه بهذا ، وقال ابن عباس وعكرمة والسدي : إلى معاني السورة ، وقال الضحاك : إلى القرآن ، وقال قتادة : إلى قوله : ( والآخرة خير وأبقى ) . ( لفي الصحف الأولى ) لم ينسخ إفلاح من تزكى والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع ، فهو في الأولى وفي آخر الشرائع ، وقرأ الجمهور : ( الصحف ) بضم الحاء كالحرف الثاني ، والأعمش وهارون وعصمة ، كلاهما عن أبي عمرو : بسكونها ، وفي كتاب اللوامح : العقيلي عن أبي عمرو : ( الصحف ) ، ( صحف ) بإسكان الحاء فيهما لغة تميم ، وقرأ الجمهور : ( إبراهيم ) بألف وبياء ، والهاء مكسورة ، وأبو رجاء : بحذفهما والهاء مفتوحة مكسورة معا ، وأبو موسى الأشعري وابن الزبير : ( أبراهام ) بألف في كل القرآن ، ومالك بن دينار : ( إبراهم ) بألف وفتح الهاء وبغير ياء ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة : ( إبراهم ) بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن ، قال ابن خالويه : وقد جاء ( إبراهيم ) ، يعني بألف وضم الهاء ، وتقدم في ( والنجم ) الكلام على صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية