الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والشفع والوتر : ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا ، وعن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( هي الصلوات منها الشفع ، ومنها الوتر ) . وروى أبو أيوب عنه : ( الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر : ليلة النحر ) . وروى جابر عنه صلى الله عليه وسلم : ( الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ) . وفي هذا الحديث تفسيره - عليه الصلاة والسلام - الفجر بالصبح والليالي العشر بعشر النحر ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، واختاره النحاس ، وقال حديث أبي الزبير عن جابر : هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين : ( صوم عرفة وتر لأنه تاسعها ، ويوم النحر شفع لأنه عاشرها ) . وذكر ابن عطية في الشفع والوتر أربعة عشر قولا ، و الزمخشري ثلاثة أقوال ، ثم قال : وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه . انتهى .

( والليل إذا يسر ) قسم بجنس الليل ، ويسري : يذهب وينقرض ، كقوله : ( والليل إذ أدبر ) . وقال الأخفش وابن قتيبة : يسري فيه ، فيكون من باب ليلك نائم . وقال مجاهد ، و عكرمة ، والكلبي : المراد ليلة جمع ؛ لأنه يسري فيها ، وجواب القسم محذوف . قال الزمخشري : وهو لنعذبن ، يدل عليه قوله : ( ألم تر ) إلى قوله : ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) . وقال ابن الأنباري : الجواب : ( إن ربك لبالمرصاد ) والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية ، وهو قوله : ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) وتقديره : لإيابهم إلينا وحسابهم علينا . وقول مقاتل : هل هنا في موضع تقديره : إن في ذلك قسما لذي حجر . فهل [ ص: 469 ] على هذا في موضع جواب القسم ، قول لم يصدر عن تأمل ؛ لأن المقسم عليه على تقدير أن يكون التركيب إن في ذلك قسما لذي حجر لم يذكر ، فيبقى قسم بلا مقسم عليه ، لأن الذي قدره من أن في ذلك قسما لذي حجر لا يصح أن يكون مقسما عليه ، وهل في ذلك تقرير على عظم هذه الأقسام ، أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله . ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصودا بذلك توعد قريش ، ونصب المثل لها ، وعاد هو عاد بن عوص ، وأطلق ذلك على عقبه ، ثم قيل للأولين منهم عادا الأولى ، وإرم نسبة لهم باسم جدهم ، ولمن بعدهم عاد الأخيرة ، وقال مجاهد وقتادة : هي قبيلة بعينها ، وقال ابن إسحاق : إرم هو أبو عاد كلها .

وقال الجمهور : إرم مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن . وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية . وقال ابن المسيب والمقبري : هي دمشق . وقال مجاهد أيضا : إرم معناه القديمة . وقرأ الجمهور : بعاد مصروفا ، إرم بكسر الهمزة وفتح الراء والميم ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية ؛ لأنه اسم للقبيلة ، وعاد ، وإن كان اسم القبيلة فقد يلحظ فيه معنى الحي فيصرف أو لا يلحظ ، فجاء على لغة من صرف هندا ، " وإرم " عطف بيان أو بدل . وقرأ الحسن : ( بعاد ) غير ممنوع الصرف مضافا إلى إرم ، فجاز أن يكون إرم جدا ومدينة ، والضحاك : إرم بفتح الراء وما بعدها ممنوعي الصرف . وقرأ ابن الزبير : ( بعاد ) بالإضافة ، أرم بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، والضحاك : ( بعاد ) مصروفا ، و ( بعاد ) غير مصروف أيضا ، ( أرم ) بفتح الهمزة وسكون الراء تخفيف أرم بكسر الراء ، وعن ابن عباس والضحاك : أرم فعلا ماضيا ، أي بلي ، يقال : رم العظم وأرم هو : أي بلي ، وأرمه غيره معدى بالهمزة من رم الثلاثي . و ( ذات ) على هذه القراءة مكسورة التاء ، وابن عباس أيضا : فعلا ماضيا ، ( ذات ) بنصب التاء على المفعول به ، و ( ذات ) بالكسر صفة لإرم ، وسواء كانت اسم قبيلة أو مدينة ، وإن كان يترجح كونها مدينة بقوله : ( لم يخلق مثلها في البلاد ) فإذا كانت قبيلة صح إضافة عاد إليها وفكها منها بدلا أو عطف بيان ، وإن كانت مدينة فالإضافة إليها ظاهرة والفك فيها يكون على حذف مضاف ، أي بعاد أهل إرم ذات العماد .

وقرئ : ( إرم ذات ) بإضافة إرم إلى ذات ، والإرم : العلم ، يعني بعاد أعلام ذات العماد ، ومن قرأ : ( أرم ) فعلا ماضيا ، ( ذات ) بالنصب ، أي جعل الله ذات العماد رميما ، ويكون ( أرم ) بدلا من ( فعل ربك ) وتبيينا لفعل ، وإذا كانت ( ذات العماد ) صفة للقبيلة ، فقال ابن عباس : هي كناية عن طول أبدانهم ، ومنه قيل : رفيع العماد ، شبهت قدودهم بالأعمدة ، ومنه قولهم : رجل عمد وعمدان أي طويل . وقال عكرمة ومقاتل : أعمدة بيوتهم التي كانوا يرحلون بها ؛ لأنهم كانوا أهل عمود . وقال ابن زيد : أعمدة بنيانهم ، وإذا كانت صفة للمدينة ، فأعمدة الحجارة التي بنيت بها ، وقيل : القصور العالية والأبراج يقال لها عماد . وحكي عن مجاهد أرم ، مصدر أرم يأرم إذا هلك ، والمعنى : كهلاك ذات العماد ، وهذا قول غريب ، كأن معنى ( كيف فعل ربك بعاد ) كيف أهلك عادا كهلاك ذات العماد ، وذكر المفسرون أن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يبنى في الأرض مثلها ، وأن الله تعالى بعث عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها هلكوا جميعا ، ويوقف على قصتهم في كتاب التحرير ، وشيء منها في الكشاف .

وقرأ الجمهور : ( لم يخلق ) مبنيا للمفعول ، ( مثلها ) رفع ، وابن الزبير : مبنيا للفاعل ، ( مثلها ) نصبا ، وعنه : نخلق بالنون والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد في البلاد ، أي في بلاد الدنيا ، أو عائد على القبيلة ، أي في عظم أجسام وقوة . وقرأ ابن وثاب : ( وثمود ) بالتنوين . والجمهور : بمنع الصرف . ( جابوا الصخر ) خرقوه ونحتوه ، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتا ، كما قال تعالى : ( وتنحتون من الجبال ) بيوتا ، قيل : [ ص: 470 ] أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي ، وادي القرى ، وقيل : جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه ، فعل ذي القوة والآمال ( ذي الأوتاد ) تقدم الكلام على ذلك في سورة ص ، ( الذين ) صفة لعاد وثمود وفرعون ، أو منصوب على الذم ، أو مرفوع على إضمار هم ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أبهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها ، ويقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، واستعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب ، قال :


فصب عليهم محصرات كأنها شآبيب ليست من سحاب ولا قطر



يريد : المحدودين في قصة الإفك ، وقال بعض المتأخرين في صفة الحبل :


صببنا عليهم ظالمين شياطنا     فطارت بها أيد سراع وأرجل



وخص السوط فاستعير للعذاب ؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره . وقال الزمخشري : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به ، والمرصاد والمرصد : المكان الذي يترتب فيه الرصد ، مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المرصاد في الآية اسم فاعل ، كأنه قال : لبالراصد ، فعبر ببناء المبالغة . انتهى . ولو كان كما زعم لم تدخل الباء ؛ لأنها ليست في مكان دخولها ، لا زائدة ولا غير زائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية