الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2156 ) مسألة : قال : ( ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ، أو صلاة الجمعة ) وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه ، إلا لما لا بد له منه ، قالت عائشة ، رضي الله عنها : السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه . رواه أبو داود . وقالت أيضا : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان } . متفق عليه .

                                                                                                                                            ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بد له منه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول . ولأن هذا مما لا بد منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد الاعتكاف ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته ، والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط ، كنى بذلك عنهما ; لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما ، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب ، إذا لم يكن له من يأتيه به ، فله الخروج إليه إذا احتاج إليه ، وإن بغته القيء ، فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد ، وكل ما لا بد له منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه وهو عليه ، ما لم يطل . وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه ، مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه ، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة ، ويلزمه السعي إليها ، فله الخروج إليها ، ولا يبطل اعتكافه . وبهذا قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : لا يعتكف في غير الجامع ، إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة . فإن نذر اعتكافا متتابعا ، فخرج منه لصلاة الجمعة ، بطل اعتكافه ، وعليه الاستئناف ; لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه ، فبطل بالخروج ، كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه خرج لواجب ، فلم يبطل اعتكافه ، كالمعتدة تخرج لقضاء العدة ، وكالخارج لإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق ، أو أداء شهادة تعينت عليه ، ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة ، فكأنه استثنى الجمعة بلفظه . ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها ، فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها ، والأصل غير مسلم . إذا ثبت هذا ، فإنه إذا خرج لواجب ، فهو على اعتكافه ، ما لم يطل ; لأنه خروج لما لا بد له منه ، أشبه الخروج لحاجة الإنسان . فإن كان خروجه لصلاة الجمعة ، فله أن يتعجل .

                                                                                                                                            قال أحمد : أرجو أن له ذلك ، لأنه خروج جائز ، فجاز تعجيله ، كالخروج لحاجة الإنسان . فإذا صلى الجمعة ، فإن أحب أن يعتكف في الجامع ، فله ذلك ; لأنه محل للاعتكاف ، والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه ، فمع عدم ذلك أولى . وكذلك إن دخل في طريقه مسجدا ، فأتم اعتكافه فيه ، جاز لذلك .

                                                                                                                                            وإن أحب الرجوع إلى معتكفه ، فله ذلك ; لأنه خرج من معتكفه ، فكان له الرجوع إليه ، كما لو خرج إلى غير جمعة . قال بعض أصحابنا : يستحب له الإسراع إلى [ ص: 69 ] معتكفه . وقال أبو داود : قلت لأحمد يركع - أعني المعتكف - يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد ؟ قال : نعم ، بقدر ما كان يركع .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الركوع وتأخيره ; لأنه في مكان يصلح للاعتكاف ، فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه . فأما إن خرج ابتداء إلى مسجد آخر ، أو إلى الجامع من غير حاجة ، أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه ، لم يجز له ذلك ; لأنه خروج لغير حاجة ، أشبه ما لو خرج إلى غير المسجد . فإن كان المسجدان متلاصقين ، يخرج من أحدهما فيصير في الآخر ، فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر ; لأنهما كمسجد واحد ، ينتقل من إحدى زاويتيه إلى الأخرى . وإن كان يمشي بينهما في غيرهما ، لم يجز له الخروج وإن قرب ; لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة . ( 2157 )

                                                                                                                                            فصل : وإذا خرج لما لا بد منه ، فليس عليه أن يستعجل في مشيه ، بل يمشي على عادته ، لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك ، وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره . وقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يأكل اليسير في بيته ، كاللقمة واللقمتين ، فأما جميع أكله فلا . وقال القاضي : يتوجه أن له الأكل في بيته ، والخروج إليه ابتداء ; لأن الأكل في المسجد دناءة وترك للمروءة ، وقد يخفي جنس قوته على الناس ، وقد يكون في المسجد غيره فيستحي أن يأكل دونه ، وإن أطعمه معه لم يكفهما .

                                                                                                                                            ولنا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وهذا كناية عن الحدث ، ولأنه خروج لما له منه بد ، أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد ، فأبطل الاعتكاف ، كمحادثة أهله ، وما ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج ، ولو ساغ ذلك لساغ الخروج للنوم وأشباهه . ( 2158 )

                                                                                                                                            فصل : وإن خرج لحاجة الإنسان ، وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها ، ويمكنه التنظف فيها ، لم يكن له المضي إلى منزله ، لأن له من ذلك بد . وإن كان يحتشم من دخولها ، أو فيه نقيصة عليه ، أو مخالفة لعادته ، أو لا يمكنه التنظف فيها ، فله أن يمضي إلى منزله ; لما عليه من المشقة في ترك المروءة . وكذلك إن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر ، يمكنه الوضوء في الأقرب بلا ضرر ، فليس له المضي إلى الأبعد .

                                                                                                                                            وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب ، لم يلزمه ; لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه . قال المروذي : سألت أبا عبد الله ، عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي ؟ قال : المسجد الكبير . وأرخص لي أن أعتكف في غيره . قلت : فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب ، أو في ذاك الجانب ؟ قال : في ذاك الجانب هو أصلح من أجل السقاية . قلت : فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ ؟ قال : إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك . قلت : يتوضأ الرجل في المسجد ؟ قال : لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد . ( 2159 )

                                                                                                                                            فصل : إذا خرج لما له منه بد ، بطل اعتكافه وإن قل . وبه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي . وقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم ; لأن اليسير معفو عنه ، بدليل أن [ ص: 70 ] { صفية أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه ، فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلبها } . ولأن اليسير معفو عنه ، بدليل ما لو تأنى في مشيه .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه خروج من معتكفه لغير حاجة ، فأبطله ، كما لو أقام أكثر من نصف يوم ، وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له بد ; لأنه كان ليلا ، فلم يأمن عليها ، ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعا ، له ترك جميعه ، فكان له ترك بعضه ، ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه . وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس ، وعليه في تغيير مشيه مشقة ، ولا كذلك هاهنا ، فإنه لا حاجة به إلى الخروج .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية