الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما المدبر المقيد فهناك لا يمكن أن يجعل الكلام سببا للحال ; لأن الأمر متردد بين أن يموت من ذلك المرض ، وفي ذلك السفر أو لا يموت .

                                                                                                                                فكان الشرط محتمل الوجود والعدم ، فلم يكن التعليق سببا للحال كالتعليق بسائر الشروط ، وكذا لما علق العتق بأمر يحتمل الوجود والعدم دل أنه ليس غرضه من هذا الكلام التقرب إلى الله عز وجل بإعتاق هذا العبد ، ولا قضاء حق الخدمة القديمة ، إذ لو كان ذلك غرضه لعلقه بشرط كائن لا محالة .

                                                                                                                                وأما قوله : إن في التدبير معنى الوصية .

                                                                                                                                فنعم ، لكن هذه وصية لازمة لثبوتها في ضمن أمر لازم وهو اليمين ، فلا يحتمل الفسخ ، ولهذا لا يحتمل الرجوع ، بخلاف الوصية بالإعتاق .

                                                                                                                                فإن قيل : هذا يشكل بالتدبير المقيد .

                                                                                                                                فإنه يتضمن معنى الوصية اللازمة ومع هذا يجوز بيعه قيل معنى الوصية للحال متردد لتردد موته على تلك الصفة ، فلا يصير العبد موصى له قبل الموت بتلك الصفة ، وههنا بخلافه وإذا ثبت حق الحرية للمدبر المطلق في الحال فكل تصرف فيه يبطل هذا الحق لا يجوز ، وما لا يبطله يجوز ، وعلى هذا تخريج المسائل لا يجوز بيعه وهبته والتصدق به والوصاية به ; لأنه تصرف تمليك الرقبة فيبطل حق الحرية ولا يجوز رهنه ; لأن الرهن والارتهان من باب إيفاء الدين واستيفائه عندنا .

                                                                                                                                فكان من باب تمليك العين وتملكها ، ويجوز إجارته ; لأنها لا تبطل هذا الحق ; لأنها تصرف في المنفعة بالتمليك لا في العين ، والمنافع على ملك المدبر ، وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه باع خدمة المدبر ولم يبع رقبته ، وبيع خدمة المدبر بيع منفعته ، وهو معنى الإجارة ، ويجوز الاستخدام ، وكذا الوطء والاستمتاع في الأمة ; لأنها استيفاء المنافع ، ويجوز تزويجها لأن التزويج تمليك المنافع وعن عبد الله بن عمر أنه كان يطأ مدبرته ; ولأن الاستيلاد آكد من التدبير ; لأنه يوجب الحرمة من جميع المال ، والتدبير من الثلث ، [ ص: 122 ] ثم الاستيلاد لا يمنع من الإجارة والاستخدام ولا يمنع من الاستمتاع والوطء والتزويج في الأمة ، فالتدبير أولى ، والأجرة والمهر والعقر والكسب والغلة للمولى ; لأنها بدل المنافع ، والمنافع ملكه والأرش له لأنه بدل جزء فات على ملكه ، ولا يتعلق الدين برقبته ; لأن رقبته لا تحتمل البيع لما بينا ، ويتعلق بكسبه ويسعى في ديونه بالغة ما بلغت ، وجنايته على المولى وهو الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ، ولا يضمن المولى أكثر من قيمة واحدة ، وإن كثرت الجنايات لما نذكر في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى ويجوز إعتاقه ; لأنه إيصاله إلى حقيقة الحرية معجلا ، ولأن المنع من البيع ونحوه ، لما فيه من منعه من وصوله إلى هذا المقصود .

                                                                                                                                فمن المحال أن يمنع من إيصاله إليه ، ولهذا جاز إعتاقه أم الولد كذا المدبر ، ويجوز مكاتبته ; لأنه يريد تعجيل الحرية إليه والمولى يملك ذلك كما يملك مكاتبة أم الولد ، وولد المدبرة من غير سيدها بمنزلتها لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ، فإنه روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ولد المدبرة بمنزلتها يعتق بعتقها ويرق برقها وروي أن عثمان رضي الله عنه خوصم إليه في أولاد مدبرة ، فقضى أن ما ولدته قبل التدبير عبد وما ولدته بعد التدبير مدبر وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم .

                                                                                                                                فيكون إجماعا ، وهو قول شريح ومسروق وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة رضي الله عنهم ولا يعرف في السلف خلاف ذلك ، وإنما قال به بعض أصحاب الشافعي فلا يعتد بقوله ; لمخالفة الإجماع ولأن حق الحرية يسري إلى الولد كولد أم الولد ، وما ولدته قبل التدبير فهو من أقضية عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ولأن حق الحرية لم يكن ثابتا في الأم وقت الولادة حتى يسري إلى الولد ، ولو اختلف المولى والمدبرة في ولدها فقال المولى : ولدتيه قبل التدبير .

                                                                                                                                فهو رقيق وقالت هي : ولدته بعد التدبير فهو مدبر ، فالقول قول المولى مع يمينه على علمه ، والبينة بينة المدبرة ; لأن المدبرة تدعي سراية التدبير إلى الولد ، والمولى ينكر .

                                                                                                                                فكان القول قوله مع اليمين ويحلف على علمه ; لأن الولادة ليست فعله ، والبينة بينة المدبرة ; لأن فيهما إثبات التدبير ولو كان مكان التدبير عتق فقال المولى للمعتقة : ولدتيه قبل العتق وهو رقيق ، وقالت : بل ولدته بعد العتق وهو حر يحكم فيه الحال إن كان الولد في يدها فالقول قولها ، وإن كان في يد المولى فالقول قوله ; لأنه إذا كان في يدها كان الظاهر شاهدا لها وإذا كان في يده كان الظاهر شاهدا له بخلاف المدبرة لأنها في يد المولى فكذا ولدها ، فكان الظاهر شاهدا له على كل حال ، وكان القول قوله ، ولو قال لأمة لا يملكها : إن ملكتك فأنت مدبرة ، وإن اشتريتك فأنت مدبرة فولدت ولدا ثم اشتراهما جميعا فالأم مدبرة والولد رقيق ; لأن الأم إنما صارت مدبرة بالشرط ولم يوجد الشرط في حق الولد ، وإنه منفصل فلا يسري إليه تدبير الأم ، والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية