الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 52 ] وقال أيضا في الرد على بعض أئمة أهل الكلام لما تكلموا في المتأخرين من أهل الحديث وذموهم بقلة الفهم وأنهم لا يفهمون معاني الحديث ولا يميزون بين صحيحه من ضعيفه ويفتخرون عليهم بحذقهم ودقة علومهم فيها فقال - رحمه الله تعالى - : لا ريب أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل الفروع والأصول وآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وقد رأيت من هذا عجائب ; لكنهم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل فكل شر في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول الإمام أحمد : ضعيف الحديث خير من الرأي وقد أمر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة [ ص: 53 ] من أبي الحسن الآمدي وقال : أخذها منه أفضل من أخذ عكا .

                مع أن الآمدي لم يكن في وقته أكثر تبحرا في الفنون الكلامية والفلسفية منه وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقا أو باطلا ; إيمانا أو كفرا - لا تدرك إلا بذكاء وفطنة ; فلذلك يستجهلون من لم يشركهم في عملهم وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم ; إذا كان منه قصور في الذكاء والبيان وهم كما قال الله تعالى : { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } { وإذا مروا بهم يتغامزون } الآيات .

                فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطرق القياسية ليس بعلم وقد لا يحصل لكثير منهم منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافرا زنديقا ; منافقا جاهلا ; ضالا مضلا ظلوما كفورا ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقي الملة من الذين قال الله فيهم : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } وقد يحصل لبعضهم إيمان ونفاق ويكون مرتدا : إما عن أصل الدين أو بعض شرائعه إما ردة نفاق وإما ردة كفر وهذا كثير غالب ; لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق فهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقال .

                [ ص: 54 ] وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال : إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله : من الملائكة والنبيين وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك .

                ثم تجد كثيرا من رءوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون كرءوس القبائل مثل : الأقرع وعيينة ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ثم دخل فيه ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب وفيهم من لم يكن كذلك فكثير من رءوس هؤلاء هكذا تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة وتارة يعود إليها ولكن مع مرض في قلبه ونفاق وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق والحكايات عنهم بذلك مشهورة .

                وقد ذكر ابن قتيبة عن ذلك طرفا في أول " مختلف الحديث " وقد حكى أهل المقالات بعضهم عن بعض من ذلك طرفا كما يذكره [ ص: 55 ] أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر بن الباقلاني وأبو عبد الله الشهرستاني وغيرهم .

                وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام وجميع ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا يكفي في النجاة من عذاب الله فضلا أن يكون موصلا لنعيم الآخرة قال الله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } الآيتين وقال تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } إلى آخر السورة فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف وأن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وحدوا الله وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك وكذلك أخبر عن فرعون . وهو كافر بالتوحيد والرسالة : أنه لما أدركه الغرق : { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به } الآية . وقال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } الآيتين .

                وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بعبادة الله وحده لا شريك له ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه وأن [ ص: 56 ] أهل السعادة هم أهل التوحيد وأن المشركين هم أهل الشقاوة ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان وكذلك الإيمان باليوم الآخر فالثلاثة متلازمة ; ولهذا يجمع بينهما في مثل قوله : { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } .

                وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم ; فهذه الأصول الثلاثة : توحيد الله والإيمان برسله وباليوم الآخر أمور متلازمة ; ولهذا قال - سبحانه - : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن } إلى قوله : { وليقترفوا ما هم مقترفون } فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء وهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف وهو : المزين المحسن يغرون به والغرور : التلبيس والتمويه وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين ثم قال : { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها ; ولهذا قال تعالى : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } إلى قوله : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } فأخبر أن الذين تركوا الكتاب وهو الرسالة يقولون إذا جاء تأويله - وهو ما أخبر به - جاءت رسل ربنا بالحق .

                وهذا كما قال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } . . الآيتين أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكر فقد تبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسله واليوم الآخر والعمل الصالح ; وهذه الأمور ليست في حكمتهم ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة المخلوقات بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحا ما فقد يرجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعا .

                فتدبر هذا فإنه نافع جدا . وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة : أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ; وهذا شيء لا يعرفونه .

                [ ص: 58 ] والتوحيد الذين يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك ; فلو كانوا موحدين بالقول والكلام وهو : أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لا بد أن يعبدوا الله وحده ويتخذوه إلها دون ما سواه وهذا معنى قول : " لا إله إلا الله " فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون لا موحدون ولا مخلصون فإذا كان ما تحصل به السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلا كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات كما قال تعالى : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } وقد جعل الله لكل شيء قدرا .

                والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق فهذا القول لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن والإرادة فالذي يؤتى فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة وكل من هؤلاء وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له ويؤمن برسله واليوم الآخر .

                ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل [ ص: 59 ] وقد يتابعونهم ذكر الله ذلك في غير موضع فذكر فرعون ; والذي حاج إبراهيم لما آتاه الله الملك ; والملأ من قوم نوح وعاد وغيرهم وذكر قول علمائهم كقوله : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } وقال : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } إلى قوله : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } إلى قوله : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله } الآية . والسلطان : هو الوحي المنزل من عند الله .

                وقد ذكر في هذه السورة : " حم غافر " من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء ومجادلتهم ما فيه عبرة مثل قوله : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } ومثل قوله : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } إلى قوله : { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون } .

                وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية ; فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب المقاييس والأمثال لهم وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم ; ولهذا قال - سبحانه - : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } . . الآية . فأخبر بما مكنوا فيه من أصناف [ ص: 60 ] الإدراكات والحركات وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم شيئا حيث جحدوا بآيات الله والرسالة ; ولهذا حدثني ابن الشيخ الفقيه الخضري عن والده شيخ الحنفية في زمنه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا : { كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض } الآية والقوة تعم قوة الإدراك النظرية وقوة الحركة العملية وقال في الآية الأخرى : { كانوا أكثر منهم وأشد قوة } فأخبر بفضلهم في الكم والكيف وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض .

                وقد قال - سبحانه - عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } إلى قوله : { والعنهم لعنا كبيرا } وقال تعالى : { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار } ومثل هذا في القرآن كثير يذكر فيه قول أعداء الرسل وأفعالهم وما أوتوه من قوى الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل .

                وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى أتباع الرسل من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } الآية و ( يصدون يستعمل لازما ; يقال : صد صدودا [ ص: 61 ] أعرض كقوله : { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } ويقال : صد غيره يصده والوصفان يجتمعان فيهم . ومثل قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الآية وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم { مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة : ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها } فبين أن في الذين يقرءون القرآن مؤمنين ومنافقين وإذا كان سعادة الأولين والآخرين هي اتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة والرسل عليهم البلاغ المبين وقد بلغوا البلاغ المبين .

                وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أنزل [ الله ] إليه كتابا مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فهو الأمين على جميع الكتب وقد [ ص: 62 ] بلغ أبين البلاغ وأتمه وأكمله وكان أنصح الخلق لعباد الله وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له وموافقة علما وعملا والله سبحانه وتعالى أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية