الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وذكر محمد في السير الكبير إذا استأجر الإمام رجلا ليقتل المرتدين والأسارى لم يجز عند أصحابنا ، وإن استأجره لقطع اليد جاز ، ولا فرق بينهما عندي ، والإجارة جائزة فيهما .

                                                                                                                                هكذا ذكر محمد وأراد بقوله : " أصحابنا " أبا يوسف وأبا حنيفة ، وعلى هذا الخلاف إذا استأجر رجل رجلا لاستيفاء القصاص في النفس ، وجه قوله أنه استأجره لعمل معلوم ، وهو القتل ومحله معلوم وهو العنق إذ لا يباح له العدول عنه فيجوز كما لو استأجره لقطع اليد وذبح الشاة ، ولهما أن محله من العنق ليس بمعلوم [ ص: 185 ] بخلاف القطع فإن محله من اليد معلوم وهو المفصل ، وكذا محل الذبح الحلقوم والودجان وذلك معلوم ، وقال ابن رستم عن محمد في رجل قال لرجل اقتل هذا الذئب أو هذا الأسد ولك درهم وهما صيد ليسا للمستأجر فقتله : فإن له أجر مثله لا أجاوز به درهما ; لأن الأسد والذئب إذا لم يكونا في يده فيحتاج في قتلهما إلى المعالجة فكان العمل مجهولا ، وإنما وجب عليه أجر المثل ; لأنه استوفى المنفعة بعقد فاسد ويكون الصيد للمستأجر ; لأن قتل الصيد سبب لتملكه وعمل الأجير يقع للمستأجر فصار كأنه قتله بنفسه ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لرجل : استأجرتك لتخيط هذا الثوب اليوم ، أو لتقصر هذا الثوب اليوم ، أو لتخبز قفيز دقيق اليوم ، أو قال : استأجرتك هذا اليوم لتخيط هذا الثوب ، أو لتقصر ، أو لتخبز قدم اليوم أو أخره أن الإجارة فاسدة في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد جائزة ، وعلى هذا الخلاف إذا استأجر الدابة إلى الكوفة أياما مسماة فالإجارة فاسدة عنده ، وعندهما جائزة ، وجه قولهما إن المعقود عليه هو العمل ; لأنه هو المقصود والعمل معلوم ، فأما ذكر المدة فهو التعجيل فلم تكن المدة معقودا عليها ، فذكرها لا يمنع جواز العقد ، وإذا وقعت الإجارة على العمل فإن فرغ منه قبل تمام المدة أي اليوم فله كمال الأجر ، وإن لم يفرغ منه في اليوم فعليه أن يعمله في الغد ، كما إذا دفع إلى خياط ثوبا ليقطعه ويخيطه قميصا على أن يفرغ منه في يومه هذا ، أو اكترى من رجل إبلا إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل بعير بعشرة دنانير مثلا ولم يزد على هذا أن الإجارة جائزة ، ثم إن وفى بالشرط أخذ المسمى وإن لم يف به فله أجر مثله لا يزاد على ما شرطه .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة أن المعقود عليه مجهول ; لأنه ذكر أمرين كل واحد منهما يجوز أن يكون معقودا عليه ، أعني العمل والمدة أما العمل فظاهر ، وكذا ذكر المدة بدليل أنه لو استأجره يوما للخبازة من غير بيان قدر ما يخبز جاز وكان الجواب باعتبار أنه جعل المعقود عليه المنفعة ، والمنفعة مقدرة بالوقت ، ولا يمكن الجمع بينهما في كون كل واحد منهما معقودا عليه لأن حكمهما مختلف ; لأن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل ; لأنه يكون أجيرا خالصا ، والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل ; لأنه يصير أجيرا مشتركا ، فكان المعقود عليه أحدهما ، وليس أحدهما بأولى من الآخر فكان مجهولا ، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد بخلاف تلك المسألة ; لأن قوله " على أن يفرغ منه في يومي هذا ليس جعل الوقت معقودا عليه بل هو بيان صفة العمل ، بدليل أنه لو لم يعمل في اليوم وعمل في الغد يستحق أجر المثل ، ولو قال : أجرتك هذه الدار شهرا بخمسة دراهم ، أو هذه الأخرى شهرا بعشرة دراهم ، أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو مسافتين مختلفتين بأن قال : أجرتك هذه الدابة إلى واسط بكذا أو إلى مكة بكذا فذلك جائز عند أصحابنا الثلاثة استحسانا ، وعند زفر والشافعي لا يجوز قياسا ، وعلى هذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء ، وإن ذكر أربعة لم يجز وعلى هذا أنواع الخياطة والصبغ أنه إن ذكر ثلاثة جاز عندنا ، ولا يجوز ما زاد عليها كما في بيع العين ، وجه القياس أنه أضاف العقد إلى أحد المذكورين وهو مجهول فلا يصح ; ولهذا لم يصح إذا أضيف إلى أحد الأشياء الأربعة ، ولنا أنه خيره بين عقدين معلومين في محلين متقومين ببدلين معلومين كما لو قال : إن رددت الآبق من موضع كذا فلك كذا ، وإن رددته من موضع كذا فلك كذا ، وكما لو قال : إن خطت هذا الثوب فبدرهم ، وإن خطت هذا الآخر فبدرهم ، وعملهما سواء ، وكما لو قال : إن سرت على هذه الدابة إلى موضع كذا فبدرهم ، وإن سرت إلى موضع كذا فبدرهم ، والمسافة سواء .

                                                                                                                                وأما قولهما إن العقد أضيف إلى أحد المذكورين من غير عين فنعم لكن فوض خيار التعيين إلى المستأجر ، ومثل هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة كجهالة قفيز من الصبرة ; ولهذا جاز البيع فالإجارة أولى ; لأنها أوسع من البيع .

                                                                                                                                ألا ترى أنها تقبل من الخطر ما لا يقبله البيع ; ولهذا جوزوا هذه الإجارة من غير شرط الخيار ولم يجوزوا البيع إلا بشرط الخيار ، وكذلك إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال له : إن خطته فارسيا فلك درهم ، وإن خطته روميا فلك درهمان ، أو قال لصباغ : إن صبغت هذا الثوب بعصفر فلك درهم ، وإن صبغته بزعفران فلك درهمان فذلك جائز ; لأنه خيره بين إيفاء منفعتين معلومتين فلا جهالة ; ولأن الأجر على أصل أصحابنا لا يجب إلا بالعمل ، وحين يأخذ في أحد العملين تعين ذلك الأجر ، وهذا عند أصحابنا الثلاثة ، فأما عند زفر فالإجارة فاسدة ; لأن المعقود عليه مجهول ، والجواب ما ذكرناه ولو [ ص: 186 ] قال : أجرتك هذه الدار شهرا على أنك إن قعدت فيها حدادا فأجرها عشرة ، وإن بعت فيها الخز فخمسة فالإجارة جائزة في قول أبي حنيفة الأخير ، وقال أبو يوسف ومحمد : الإجارة فاسدة ، وجه قولهما إن الأجر لا يجب بالسكنى وإنما يجب بالتسليم وهو التخلية ، وحالة التخلية لا يدري ما يسكن فكان البدل عنده مجهولا بخلاف الرومي ، والفارسي ; لأن البدل هناك يجب بابتداء العمل ، ولا بد وأن يبتدئ بأحد العملين ، وعند ذلك يتعين البدل ويصير معلوما عند وجوده ولأبي حنيفة أنه خير بين منفعتين معلومتين فيجوز كما في خياطة الرومية والفارسية ، وهذا لأن السكنى وعمل الحدادة مختلفان ، والعقد على واحد منهما صحيح على الانفراد فكذا على الجمع ، وقولهما بأن الأجر ههنا يجب بالتسليم من غير عمل مسلم ، لكن العمل يوجد ظاهرا وغالبا ; لأن الانتفاع عند التمكين من الانتفاع هو الغالب فلا يجب الاحتراز عنه ، على أن بالتخلية وهو التمكن من الانتفاع يجب أقل الأجرين ; لأن الزيادة تجب بزيادة الضرر ، ولم توجد زيادة الضرر وأقل الأجرين معلوم فلا يؤدي إلى الجهالة ، وهذا جواب إمام الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي ، وعلى هذا الخلاف كل ما كان أجره يجب بالتسليم ولا يعلم الواجب به وقت التسليم فهو باطل عندهما ، وعند أبي حنيفة العقد جائز ، وأي التعيين استوفي وجب أجر ذلك كما سمي وإن أمسك الدار ولم يسكن فيها حتى مضت المدة فعليه أقل المسميين لما ذكرنا أن الزيادة إنما تجب باستيفاء منفعة زائدة ولم يوجد ذلك فلا يجب بالتسليم وهو التخلية إلا أقل الأجرين ، وعلى هذا الخلاف إذا استأجر دابة إلى الحيرة على أنه إن حمل عليها شعيرا فبنصف درهم وإن حمل عليها حنطة فبدرهم فهو جائز على قول أبي حنيفة الآخر ، وعلى قولهما لا يجوز ، وكذلك إن استأجر دابة إلى الحيرة بدرهم وإلى القادسية بدرهمين فهو جائز عنده ، وعلى قولهما ينبغي أن لا يجوز لما ذكرنا ، ولو استأجر دابة من بغداد إلى القصر بخمسة وإلى الكوفة بعشرة قال محمد : لو كانت المسافة إلى القصر النصف من الطريق إلى الكوفة فالإجارة جائزة ، وإن كانت أقل أو أكثر فهي فاسدة على أصلهما ; لأن المسافة إذا كانت النصف فحال ما يسير يصير البدل معلوما ; لأنه إن سار إلى القصر أو إلى الكوفة فالأجرة إلى القصر خمسة ، فأما إذا كانت المسافة إلى القصر أقل من النصف ( 1 ) أو أكثر فالأجرة حال ما يسير مجهولة ; لأنه إن سار إلى القصر فالأجرة خمسة وإن سار إلى الكوفة فالأجرة إلى القصر بحصته من المسافة وجهالة الأجرة عند وجود سبب وجوبها تفسد العقد عندهما ، فأما على قول أبي حنيفة فالعقد جائز ; لأنه سمى منفعتين معلومتين ; لأن كل واحد منهما بدل معلوم ولو أعطى خياطا ثوبا فقال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم قال أبو حنيفة : الشرط الأول صحيح والثاني فاسد ، حتى لو خاطه اليوم فله درهم وإن خاطه غدا فله أجر مثله على ما نذكر تفسيره ، وقال أبو يوسف ومحمد : الشرطان جائزان ، وقال زفر : الشرطان باطلان ، وبه أخذ الشافعي ، فنتكلم مع زفر والشافعي في اليوم الأول لأنهما خالفا أصحابنا الثلاثة فيه ، والوجه لهما أن المعقود عليه مجهول ، ولنا أنه سمى في اليوم الأول عملا معلوما وبدلا معلوما ، وفساد الشرط الثاني لا يؤثر في الشرط الأول كمن عقد إجارة صحيحة وإجارة فاسدة .

                                                                                                                                وأما اليوم الثاني فوجه قول أبي يوسف ومحمد على نحو ما ذكرنا في اليوم الأول أنه سمي في اليوم الثاني عملا معلوما وبدلا معلوما كما في الأول فلا معنى لفساد العقد به ، كما لا يفسد في اليوم الأول .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة أنه اجتمع في اليوم الثاني بدلان متفاوتان في القدر ; لأن البدل المذكور في اليوم الأول جعل مشروطا في اليوم الثاني ، بدليل أنه لو لم يذكر لليوم الثاني بدلا آخر وعمل في اليوم الثاني يستحق المسمى في الأول ، فلو لم يجعل المذكور من البدل في اليوم الأول مشروطا في الثاني لما استحق المسمى ، وإذا اجتمع بدلان في اليوم الثاني صار كأنه قال : في اليوم الثاني فلك درهم أو نصف درهم فكان الأجر مجهولا فوجب فساد العقد ، فإذا خاطه في اليوم الثاني فله أجر مثله لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم ، هكذا ذكر في الأصل ، وفي الجامع الصغير ، وذكر محمد في الإملاء ، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف ، وإحدى روايتي ابن سماعة في نوادره عن محمد ، وروى ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في رواية أخرى أن له في اليوم الثاني أجر مثله لا يزاد على نصف درهم [ ص: 187 ] وذكر القدوري أن هذه الرواية هي الصحيحة ، ووجهها أن الواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يزاد على المسمى ، والمسمى في اليوم الثاني نصف درهم لا درهم إنما الدرهم مسمى في اليوم الأول وذلك عقد آخر فلا يعتبر فيه ، وجه رواية الأصل أنه اجتمع في الغد تسميتان ; لأن التسمية الأولى عند مجيء الغد قائمة لما ذكرنا فيعمل بهما فتعتبر الأولى لمنع الزيادة ، والثانية لمنع النقصان ، فإن خاط نصفه في اليوم الأول ونصفه في الغد فله نصف المسمى لأجل خياطته في اليوم وأجر المثل لأجل خياطته في الغد لا يزاد على درهم ولا ينقص عن نصف درهم ، فإن خاطه في اليوم الثالث فقد روى ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة أن له أجر مثله لا يجاوز به نصف درهم ; لأن صاحب الثوب لم يرض بتأخيره إلى الغد بأكثر من النصف ، فبتأخيره إلى اليوم الثالث أولى ، فإن قال : إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلا أجر لك ، ذكر محمد في إملائه أنه إن خاطه في اليوم الأول ، فله درهم وإن خاطه في اليوم الثاني فله أجر مثله لا يزاد على درهم ; لأن إسقاطه في اليوم الثاني لا ينفي وجوبه في اليوم الأول ونفي التسمية في اليوم الثاني لا ينفي أصل العقد فكان في اليوم الثاني عقد لا تسمية فيه ، ويجب أجر المثل ولو قال : إن خطته أنت فأجرك درهم ، وإن خاطه تلميذك فأجرك نصف درهم فهذا والخياطة الرومية ، والفارسية سواء ، ولو استأجر دارا شهرا بعشرة دراهم على أنه إن سكنها يوما ثم خرج فعليه عشرة دراهم فهو فاسد ; لأن المعقود عليه مجهول وهو سكنى شهر أو يوم والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية