الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                          صفحة جزء
                                          1867 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، قالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، فرفع يديه فقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر : هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا . فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه [ ص: 431 ] - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف ! وفي رواية : بقدر ما تغرف . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا ! قال : فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس ، فنزلوا فأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات، وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا - وفي رواية : يصيد لنا - ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت : نحن بشر، نحن في ضيق وشدة ، وشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول : غير عتبة بابك . قال : ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك . الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته، فسأل عنه . قالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم . فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله تعالى. فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه .

                                          وفي رواية : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد فقالت امرأته : ألا تنزل ، فتطعم وتشرب ؟ قال : وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم . قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : بركة دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم! قال : فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت [ ص: 432 ] عليه، فسألني عنك فأخبرته؟ فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد . قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني . قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتا ههنا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، فعند ذلك رفع القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم

                                          وفي رواية : إن إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، معهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله . قالت : رضيت بالله، فرجعت وجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني الماء، قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت : هل تحس أحدا ؟ فلم تحس أحدا . فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة وفعلت ذلك أشواطا، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت ونظرت، فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت، فقالت : أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل صلى الله عليه وسلم فقال بعقبه هكذا وغمز بعقبه على الأرض، فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفن ، وذكر الحديث بطوله .


                                          رواه البخاري بهذه الروايات كلها .

                                          «الدوحة» : الشجرة الكبيرة . قوله: «قفى» أي : ولى . و«الجري» : الرسول . و«ألفى» معناه : وجد . قوله: «ينشغ» : أي يشهق .

                                          التالي السابق


                                          الخدمات العلمية