الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن التاسع : السلام وهو موضوع في اللغة لستة معان : السلامة ، والاستسلام ، واسم للتسليم ، واسم لله تعالى ، واسم شجر الواحدة منه سلامة ، وللبراءة من العيوب ، وفيه لغتان : السلام على وزن الكلام بفتح السين وبكسرها ، وسكون اللام مثل عدل نحو قوله :


                                                                                                                وفقنا فقلنا إيه سلم فسلمت فما كان إلا ومؤها بالحواجب



                                                                                                                [ ص: 199 ] فعلى الأول يكون دعاء للمصلين بكفاية الشرور ، وعلى الثاني أمان من المسلم للمسلم عليه في الصلاة ، وفي غيرها ، وعلى الثالث يحتمل المعنيين ، والرابع معناه : الله عليكم حفيظ أو راض أو مقبل ، والخامس غير مراد في الصلوات ولا في التحيات ، والسادس دعاء بالسلامة من عيوب الذنوب ، وكلها يصلح أن يريدها المصلي والمسلم إلا الخامس ، فإن جوزنا استعمال اللفظ المشترك في جميع مفهوماته وهو مذهبنا ، ومذهب الشافعي كما تقدم في المقدمة جوزنا للمصلي أن يريد جميعها وهو أكمل في جدواها ، وإن قلنا بالمنع فينبغي للمصلي أن يريد أتمها معنى ، والأصل في وجوبها ما في أبي داود من قوله عليه السلام : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم . والمبتدأ يجب انحصاره في الخبر كما تقدم في المقدمة فيكون تحليلها منحصرا في التسليم ، فلو اعتمد غيره لكان باقيا في الصلاة مدخلا فيها ما ليس منها وهو حرام ، وترك الحرام واجب فيجب التسليم .

                                                                                                                وفي الركن فروع ستة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : لا يجزئ إلا السلام عليكم يسلمها الإمام والمنفرد : الرجال والنساء مرة تلقاء الوجه ويتيامن قليلا . قال صاحب الطراز : وفي الواضحة يسلم المنفرد اثنتين عن يمينه وعلى يساره ، وكان يفعل ذلك في [ ص: 200 ] خاصة نفسه ، وخرج الباجي عليه الإمام ، ولا يقل للنساء : السلام عليكن ; لوضع هذا اللفظ وضعا عاما ، ويقع التحليل به معرفا بغير خلاف ، وجوز ( ش ) المنكر وتردد في عليكم السلام ، وقال ( ح ) : لفظه : السلام عليكم ورحمة الله مرتين عن اليمين واليسار منفردا كان أو غيره ، وفي الجواهر جواز التنكير عن أبي القاسم بن شبلون ، وجوز أبو حنيفة سائر الكلام حتى لو أحدث قاصدا للخروج أجزأه ، وحكى المازري عن ابن القاسم إن أحدث آخر صلاته في التشهد صلاته صحيحة ، قال الباجي : وهذا يعرف من مذهب الحنفية ، قال المازري : وليس كذلك ; لأنهم لا يجوزون الخروج بالحدث من غير قصد ، وابن القاسم لم يشترط القصد . لنا ما تقدم من الحديث وأنه تعبد فيقتصر به على تسليمه - عليه السلام - والسلف من بعده ، وإلا لجاز سلام الله عليكم وغيره من ألفاظ التحية ، وهو لا يجوز عند ( ش ) ، وفي الترمذي أنه - عليه السلام - كان يسلم من الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه ، قال مالك : وما أدركنا الأئمة إلا على تسليمة ، وروى سعد بن أبي وقاص ، قال : كنت أراه - عليه السلام - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده . والأول أرجح للعمل منه - عليه السلام - والخلفاء الأربعة بعده وأهل المدينة بعدهم ، والقياس على تكبيرة الإحرام تسوية بين الدخول والخروج ، ولأنه لو أحدث بعد الأولى لم تفسد الصلاة إجماعا إلا عند ابن حنبل والحسن بن حي وهما مسبوقان بالإجماع ، وإذا كان الإمام يسلم اثنتين فقال في العتبية : لا يقوم المسبوق للقضاء حتى يسلمها فإن قام أساء ولم تفسد ، ولما كان السلام سبب [ ص: 201 ] الخروج من الصلاة وهو من الصلاة شرع أوله للقبلة ; لأنه منها ، وآخره لغيرها إشارة للانصراف قال صاحب النوادر : التيامن ليس شرطا فلو تياسر ، ثم تيامن لم تبطل ; لقوله عليه السلام : وتحليلها التسليم من غير شرط . وقال ابن شعبان : تبطل ; لأنه غير السلام المعهود منه - عليه السلام - احتج الحنفية بما يروى عنه - عليه السلام - أنه قال : إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد ، ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته ، ولأنه لا يجب متابعة الإمام فيه بدليل قيام المسبوق ولم يسلم ، ولأن الأكل لما نافى الصوم خرج منه بالليل ، وإن لم يقع الأكل ، والجواب عن الأول أنه غير صحيح ، وعن الثاني أن عدم المتابعة كان لقيام المعارض وهو بقاء ما يجب تقديمه قبل السلام ، وعن الثالث أن التسليم آخر جزء من الصلاة فهو كآخر جزء من الصوم وليس كالليل ولأنا نمنع مضادة السلام للصلاة ; لأن الجزء لا ينافي الكل ومما يوضح مذهبنا : أن الصلاة صلة بين العبد وربه ومواطن الإجلال والتعظيم والأدب والموانسة في حضرة الربوبية حتى أمر العبد فيها بالانقطاع عن سائر الجهات والحركات إلا جهة واحدة وهيئة واحدة بجمع شمله على أدب المناجاة ، وإذا كانت على هذه الصفات لا يليق ختمها بالحدث الذي هو أفحش القاذورات .

                                                                                                                الثاني في الجواهر : اختلف المتأخرون في انسحاب حكم النية على السلام أو اشتراط تجديد نية الخروج على قولين ، قال صاحب الإشراف : إذا سلم بغير نية التحليل لا يجزيه خلافا لبعض الشفعوية ، ووافقه صاحب الطراز ، واستدل بأن تكبيرة الإحرام تفتقر إلى نية التحريم ; لتميزها عن غيرها ، [ ص: 202 ] وكذلك يشترط في التسليم نية التحليل ; لتميزه عن جنسه ، وقد تقدم في الطهارة أن النية ; لتمييز العبادات عن العادات أو لتمييز مراتب العبادات في أنفسها .

                                                                                                                الثالث : قال في الكتاب : يسلم المأموم عن يمينه ، ثم على الإمام لما في أبي داود : أمرنا - عليه السلام - ثم ذكر التشهد ، وقال : ثم سلموا على اليمين ، ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم . وفي الجواهر في رد المأموم ثلاث روايات : ففي الكتاب كان يقول يبدأ بمن على يساره ، ثم الإمام ، ثم رجع يقول يبدأ بالإمام ، ثم يساره ، وروى القاضي عبد الوهاب التخيير ، وجه البداية باليسار أن جواب التحية على الفور وقد حال بين سلام الإمام والمأموم سلام التحلل بخلاف من على اليسار ، ولأن ابن المسيب كان يفعل ذلك ، وجه المشهور أن الإمام هو السابق بالتحية فيبدأ به ، ولأنه فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - وجه التخيير تقابل الأدلة ، وفي الجواهر يرد على الإمام فقط ، قال صاحب الطراز : هل يرد على الإمام ومن على يساره بتسليمة واحدة ؟ وقيل يرد قياسا على جملة المأمومين ; فإنه لا يحتاج إلى كل واحد تسليمة ، وقيل : لا يجمع تشريفا للإمام ، ولأن تسليم الإمام في زمان آخر فكان الرد عليه بلفظ آخر ، وهل يشترط في الرد على اليسار التأخير حتى يسلم [ ص: 203 ] من على يسار ؟ وليس فيه نص ، والظاهر أنه ليس بشرط ; لأنه وإن تأخر فهو في حكم الواقع ، قال : وإذا لم يكن على يساره أحد ، فالمشهور : لا يسلم ، وعلى قوله إن المنفرد يسلم اثنتين ؟ يسلم فإذا فرعنا على المشهور فكان من على يساره مسبوقا فيحتمل أن يقال : لا يرده ; لأن سلامه متأخر جدا ، ويحتمل أن يقال : هو في حكم الواقع ، ولأن رد المأموم سنة مقدرة على من على يساره بدليل أنه يرد على من لم يقصد السلام عليه ، قال : وظاهر كلام الكتاب أنه يتيامن في جملة تسليمه بخلاف الإمام ; لأن سلام المأموم مختص بمن على يمينه ، ولهذا لا يرد عليه إلا من على يمينه ، وسلام الإمام ليس مختصا بجهة ولهذا يرد عليه جملة المأمومين يمينا وشمالا وخلفا وأماما ، وقال ( ش ) : ينوي الفذ بالسلام الخروج والتسليم على الحفظة ، وينوي بالتسليم الثاني الخروج فقط ، وينوي الإمام الخروج والتسليم على الحفظة والمأمومين ، وينوي بالثاني الحفظة والخروج ، وينوي المأموم بالأول التحليل والحفظة ومن على يمينه من المأمومين والإمام إن كان على يمينه ، وبالثاني الخروج والحفظة والإمام إن كان على يساره فإن كان أمامه فهو مخير ، قال صاحب الطراز : وعندنا لا يرد على الإمام بتسليمة التحليل ; لأنه يصير بمنزلة المتكلم في الصلاة وإذا رد على الإمام فهل يشترط حضوره فلا يرد المسبوق ؟ الذي رجع إليه مالك وأخذ به ابن القاسم الرد ، نظرا إلى أنه من سنة الصلاة ، والقول الأول مبني على أنه شرع على الفور وقد تراخى ، وهذا فيمن أدرك ركعة فأكثر فإن لم يدرك إلا التشهد ، قال سحنون : لا يرد ; لأنه ليس إماما له في صلاته ، ولهذا لا [ ص: 204 ] يسجد معه في سهوه . فلو سلم على الإمام قبل تسليم التحلل ، سجد بعد السلام ، وجوز في الكتاب الرد بالسلام عليكم ، وبعليكم السلام ورجح الأول ، وجوز أشهب في العتبية سلام عليكم ; لأنه ليس من نفس الصلاة وإنما هو رد تحية ، ولما كان متعلقا بالصلاة من حيث الجملة ترجح أن يكون من جنس سلام الصلاة ، واستحب في الكتاب أن لا يجهر بتسليمة اليسار مثل تسليمة اليمين ; لأنها لا يطلب لها جواب فكانت كأذكار الصلاة ، والأولى كتكبيرة الإمام يطلب لها الجواب فيجهر بها .

                                                                                                                الرابع : قال في الكتاب : يجهر الإمام ومن خلفه بالسجود بالسلام من السجود للسهو بعد السلام ، قال صاحب المعونة : فيه روايتان : التسوية بينه وبين الأول ، والإخفاء كصلاة الجنازة ; لاشتراكهما في عدم الركوع .

                                                                                                                الخامس : قال في الواضحة : لا يمد سلامه وليحذفه ، وفي أبي داود أنه - عليه السلام - كان يفعل ذلك ، ولأن الإمام إذا طول سلامه سلم المأموم قبل سلامه إلا أنه لا يبالغ في الحذف لئلا يسقط الألف .

                                                                                                                السادس : قال في الكتاب : إذا سلم إمام مسجد القبائل فلا يقعد في مصلاه ، بخلاف إمام السفر ونحوه لما روى سحنون في الكتاب أنها السنة ، وأن ابن مسعود قال : الجلوس على الحجارة المحماة خير من ذلك . وفي [ ص: 205 ] البخاري : كان - عليه السلام - إذا سلم مكث قليلا فكانوا يرون ذلك كما ينفر النساء قبل الرجال . واختلف في تعليله فقيل : لئلا يغتربه الداخل فيحرم معه ، وقيل : لئلا يشك هل سلم أم لا أو يشك من خلفه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية