الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          وإن طلقها ثلاثا ، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، ويطؤها في القبل ، وأدنى ما يكفي من ذلك تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ، وإن كان مجبوبا بقي من ذكره قدر الحشفة ، فأولجه ، أو وطئها زوج مراهق أو ذمي ، وهي ذمية - أحلها ، وإن وطئها في الدبر ، أو وطئت بشبهة ، أو بملك يمين - لم تحل ، وإن وطئت في نكاح فاسد ، لم تحل في أصح الوجهين وإن وطئها زوجها في حيض ، أو نفاس ، أو إحرام - أحلها وقال أصحابنا : لا يحلها ، وإن كانت أمة ، فاشتراها مطلقها - لم تحل ، ويحتمل أن تحل ، وإن طلق العبد امرأته طلقتين ، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، سواء عتقا ، أو بقيا على الرق ، وإذا غاب عن مطلقته ثلاثا ، فأتته ، فذكرت أنها نكحت من أصابها ، أو انقضت عدتها ، وكان ذلك ممكنا ، فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها ، وإلا فلا .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل .

                                                                                                                          ( وإن طلقها ) أي : الحر ( ثلاثا ) والعبد اثنتين ، ولو عبر كـ " الفروع " بقوله : من طلق عدد طلاقه لكان أولى ( لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) إجماعا ، وسنده قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، وحديث امرأة رفاعة القرظي ، وقال سعيد بن المسيب : إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد به إحلالا ، فلا بأس أن يتزوجها الأول ، قال [ ص: 404 ] ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال بهذا إلا الخوارج ، ولإجماعهم على أن المراد بالنكاح في الآية : الجماع .

                                                                                                                          وحاصله : أن حلها للأول مشروط بأن تنكح زوجا غيره ، فلو كانت أمة فوطئها السيد فلا ، وأن يكون النكاح صحيحا على المذهب ، فلو كان فاسدا فلا ، وأن يطأها في الفرج لحديث عائشة ، ونبه عليه بقوله : ( ويطؤها في القبل ) ؛ لأنه - عليه السلام - علق الحل على ذواق العسيلة ، ولا تحصل إلا بالوطء في الفرج ( وأدنى ما يكفي من ذلك تغييب الحشفة ) مع الانتشار ( في الفرج وإن لم ينزل ) ؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به ، فلو أولج من غير انتشار لم يحلها ؛ لأن الحكم يتعلق بذواق العسيلة ، ولا يحصل من غير انتشار ، وليس الإنزال شرطا فيه ؛ لأنه - عليه السلام - جعل ذواق العسيلة غاية للحرمة ، وذلك حاصل بدون الإنزال ، والذي يظهر أن هذا في الثيب ، فأما البكر فأدناه أن يفتضها بآلته ( وإن كان مجبوبا بقي من ذكره قدر الحشفة ، فأولجه ) أحلها ؛ لأن ذلك منه بمنزلة الحشفة من غيره ، وفي " الترغيب " وجه : بقيته ( أو وطئها زوج مراهق ) أحلها في قولهم ، إلا الحسن ؛ لظاهر النص ؛ ولأنه وطء من زوج في نكاح صحيح ، أشبه البالغ ، وبخلاف الصغير ، فإنه لا يمكنه الوطء ، ولا تذاق عسيلته ، وفي " المستوعب " : يعتبر أن يكون له عشر سنين فصاعدا ، وقال القاضي : يشترط له اثنتا عشرة سنة ، ونقله مهنا ؛ لأن من دون ذلك لا يمكنه المجامعة ، ولا معنى لهذا ، فإن الخلاف في المجامع ، ومتى أمكنه الجماع فقد [ ص: 405 ] وجد منه المقصود ( أو ذمي ، وهي ذمية ، أحلها ) لمطلقها المسلم ، نص عليه ، وقال : هو زوج ، وبه تجب الملاعنة والقسم ؛ ولظاهر النص ؛ ولأنه وطء من زوج في نكاح صحيح ، أشبه وطء المسلم ( وإن وطئها في الدبر ، أو وطئت بشبهة ، أو بملك يمين - لم تحل ) ؛ لأن الوطء في الدبر لا تذوق به العسيلة ، والوطء بشبهة أو ملك يمين وطء زوج ، فلا يدخل في عموم النص ، فيبقى على المنع ( وإن وطئت في نكاح فاسد ، لم تحل في أصح الوجهين ) نص عليه ؛ لأن النكاح المطلق في الكتاب والسنة إنما يحمل على الصحيح ، وقاله الأئمة ، وخرج أبو الخطاب وجها يحلها ؛ لأنه زوج ، فيدخل في عموم النص ، وسماه - عليه السلام - محللا مع فساد نكاحه ، والأول المذهب ونصره في " الشرح " بدليل ما لو حلف : لا يتزوج ، فتزوج تزويجا فاسدا - لا يحنث ؛ ولأن أكثر أحكام التزويج غير ثابتة فيه من الإحصان ، واللعان ، والظهار ونحوها ، وسماه محللا لقصده التحليل فيما لا يحل ، ولو أحل حقيقة لما لعن ، ولا لعن المحلل له ؛ لقوله - عليه السلام - : ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ولأنه وطء في غير نكاح كوطء الشبهة ( وإن وطئها زوجها في حيض ، أو نفاس ، أو إحرام ) أو صوم واجب منهما ، أو من أحدهما ( أحلها ) في اختيار المؤلف ، وصححه في " الشرح " ؛ لدخوله في العموم ؛ ولأنه وطء تام في نكاح تام ، فأحلها ، كما لو وطئها مريضة يضر بها وطؤه ، فإنه لا خلاف في حلها ، قاله في " الكافي " ، وكما لو تزوجها وهو مملوك ووطئها ، وكما لو وطئها وقد ضاق وقت صلاة ومسجد ، وكقبض مهر ونحوه ؛ لأن الحرمة لا لمعنى فيها لحق الله تعالى ، بخلاف وطئها في إحرام ونحوه [ ص: 406 ] فإن الحرمة هناك لمعنى فيها ، وفي " عيون المسائل " و " المفردات " : منع وتسليم ( وقال أصحابنا : لا يحلها ) قدمه في " الفروع " ، وهو المنصوص في الكل ؛ لأنه وطء حرم لحق الله ، فلم يحلها ، كوطء المرتدة ، أو نكاح باطل .



                                                                                                                          مسائل : الأولى : إذا وطئها في ردتها أو ردته لم يحلها ؛ لأنه إن عاد إلى الإسلام فقد وقع الوطء في نكاح غير تام ؛ لانعقاد سبب البينونة ، وإن لم يسلم في العدة ، فلم يصادف الوطء نكاحا ، وكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها قبل إسلام الآخر .

                                                                                                                          الثانية : إذا كانا مجنونين أو أحدهما ، فوطئها ، أحلها على النص ، وكالبالغ العاقل ، وقال ابن حامد : لا يحلها ؛ لأنه لا يذوق العسيلة ، والأول أصح ؛ لأن العقل ليس شرطا في الشهوة بدليل البهائم ، قال في " الشرح " : لكن إن كان المجبوب ذاهب الحس كالمصروع والمغمى عليه ، فلم يحصل الحل بوطئه .

                                                                                                                          الثالثة : إذا وطئ مغمى عليها ، أو نائمة لا تحس بوطئه - لم تحل ، حكاه ابن المنذر ، ويحتمل حصول الحل للعموم ، ولو وطئها يعتقدها أجنبية ، فإذا هي امرأته - حلت ؛ لأنه صادف نكاحا صحيحا .

                                                                                                                          الرابعة : إذا استدخلت ذكره وهو نائم حلت ، وقدم في " الشرح " خلافه ؛ لأنه لم يذق عسيلتها ، وإن وطئها مع إغمائه - فوجهان ، وإن كان خصيا ، أو مسلولا ، أو موجوءا - حلت ؛ لدخوله في عموم الآية في قول الأكثر ، وعنه : [ ص: 407 ] لا لعدم ذوقان العسيلة . قال أبو بكر : والعمل على الأول ؛ لأنه يطأ كالفحل ، ولم يفقد إلا الإنزال ، وهو غير معتبر في الإحلال .



                                                                                                                          ( وإن كانت أمة ، فاشتراها مطلقها - لم تحل ) نص عليه ، رواه مالك ، والبيهقي ، عن زيد بن ثابت ، وقاله الأكثر للآية ؛ ولأن الفرج لا يجوز أن يكون محرما مباحا ( ويحتمل أن تحل ) ؛ لأن الطلاق يختص الزوجية ، فأثر في التحريم .



                                                                                                                          ( وإن طلق العبد امرأته طلقتين ، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ) هذا هو المذهب : أن الطلاق معتبر بالرجال ، والتفريع عليه ، فعلى هذا إذا طلقها طلقتين حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ( سواء عتقا ، أو بقيا على الرق ) ؛ لاستواء حالين في السبب المقتضي للتحريم قبل نكاح زوج آخر ، وذلك أن سبب التحريم استكمال العدد ، وهو موجود في حالتي العتق بعد الرق وبقاء الرق .

                                                                                                                          والمذهب : أنه إذا عتق بعد طلقة ، ملك تمام الثلاث ، وإن كان بعد طلقتين فعلى روايتين ؛ لأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى به ، وقال في رواية أبي طالب : يتزوجها ولا يبالي في العدة عتقا ، أو بعد العدة ، وقال : هو قول ابن عباس وجابر ؛ لأن ابن عباس أفتى به ، وقال : قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد وقال : لا أرى شيئا يدفعه ، وأبو داود ، والنسائي من رواية عمر بن معتب ، عن أبي حسن مولى بني نوفل ، ولا يعرفان ، وقال النسائي في عمر : ليس بقوي ، وقال ابن المبارك ، ومعمر : لقد تحمل أبو حسن هذا صخرة عظيمة ، وقال أحمد : حديث عثمان وزيد في تحريمها عليه جيد ، وحديث ابن عباس يرويه عمر بن معتب ، ولا أعرفه ، وأما أبو حسن فهو عندي معروف ، وقال أبو بكر : إن صح [ ص: 408 ] الحديث ، فالعمل عليه ، وإلا فالعمل على حديث عثمان وزيد ، وبه أقول .

                                                                                                                          فرع : إذا علق ثلاثا في الرق بشرط ، فوجد بعد عتقه - لزمته الثلاث ، وقيل : ثنتان ، ويبقى له واحدة ، كتعليقها بعتقه في الأصح .



                                                                                                                          ( وإذا غاب عن مطلقته ثلاثا ، فأتته ، فذكرت أنها نكحت من أصابها ، أو انقضت عدتها ، وكان ذلك ممكنا ، فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها ) المطلقة المبتوتة إذا مضى بعد طلاقها زمن يمكن فيه انقضاء عدتين ، بينهما نكاح ووطء ، ولم يرجع قبل العقد ، وأخبرته بذلك ، وغلب على ظنه صدقها ، مثل أن يعرف أمانتها ، أو بخبر غيرها ممن يعرف حالها ، وفي " الترغيب " وجه : إن كانت ثقة ، فله أن يتزوجها في قول عامتهم ؛ لأنها مؤتمنة على نفسها ، وعلى ما أخبرت به عنها ، ولا سبيل إلى معرفة هذه الحال على الحقيقة إلا من جهتها ، فتعين الرجوع إلى قولها ، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها ( وإلا فلا ) أي : إذا لم يوجد ما ذكر ، ولم يغلب على ظنه صدقها ، فلا تحل له ؛ لأن الأصل التحريم ، فوجب البقاء على الأصل ، وكما لو أخبره عن حالها فاسق ، فلو كذبها الثاني في وطء ، قبل قوله في تنصيف مهر ، وقولها في إباحتها للأول ، وكذا لو تزوجت حاضرا ، وفارقها ، وادعت إصابته وهو منكرها . ومثل الأولة ، لو جاءت حاكما ، وادعت أن زوجها طلقها ، وانقضت عدتها ، فله تزويجها إن ظن صدقها بمعاملة ، وعبد لم يثبت عتقه ، قاله الشيخ تقي الدين ، لا سيما إن كان الزوج لا يعرف ، وظهر مما سبق أنه طلقها ، وانقضت العدة ، فإنها تزوج .

                                                                                                                          [ ص: 409 ] فرع : لو شهدا بأن فلانا طلق امرأته ثلاثا ، ووجد معها بعد ، وادعى العقد ثانيا بشروطه - يقبل منه ، وسئل عنها المؤلف ، فلم يجب ، ولو وطئ من طلقها ثلاثا ، حد ، نص عليه ، فإن جحد طلاقها ووطئها ، فشهد بطلاقه ، فلا ؛ لأنا لا نعلم معرفته به وقت وطئه إلا بإقراره به .




                                                                                                                          الخدمات العلمية