الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          الخامس : كون المرء كفء لها في إحدى الروايتين ، فلو رضيت المرأة والأولياء بغيره ، لم يصح ، والثانية : ليس بشرط ، وهي أصح ، لكن إن لم ترض المرأة والأولياء جميعهم ، فلمن لم يرض الفسخ ، فلو زوج الأب بغير كفء برضاها ، فللإخوة الفسخ ، نص عليه .

                                                                                                                          والكفاءة : الدين والمنصب ، فلا تزوج عفيفة بفاجر ، ولا عربية بعجمي ، والعرب بعضهم لبعض أكفاء ، وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء ، وعنه : لا تزوج قرشية لغير قرشي ، ولا هاشمية لغير هاشمي ، وعنه : أن الحرية والصناعة واليسار من شروط الكفاءة ، فلا تزوج حرة بعبد ، ولا بنت بزاز بحجام ، ولا بنت تانئ بحائك ، ولا موسرة بمعسر .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل .

                                                                                                                          ( الخامس : كون الرجل كفء لها في إحدى الروايتين ) هي ظاهر المذهب والمشهورة عند عامة الأصحاب ; لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض [ ص: 50 ] وفساد كبير رواه الترمذي ، وروي مرسلا ، قيل : هو أصح ، وقال عمر : لأمنعن تزويج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء . رواه الخلال والدارقطني ، ورواه جابر مرفوعا : لا ينكح النساء إلا الأكفاء ضعفه ابن عبد البر ، وقال سلمان لجرير : إنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم ، ولا ننكح نساءكم ; لأن الله فضلكم علينا بمحمد . رواه البيهقي بإسناد حسن ، واحتج بهما أحمد في رواية أبي طالب ; ولأنه تصرف في حق من يأتي من الأولياء ، فلم يصح كما لو زوجت بغير إذنها ، فإن عدم حال العقد فحكمه حكم العقود الفاسدة ، وإن وجدت حال العقد ثم عدمت بعده لم يبطل النكاح ، وللمرأة الفسخ كعتقها تحت عبد ، وقيل : لا كوليها ، وكطول حرة من نكح أمة ، وفي ثالث : لهم الفسخ كما لو كانت معدومة قبل العقد ، ( فلو رضيت المرأة والأولياء بغيره ) أي : بغير كفء - ( لم يصح ) ; لفوات الشرط ; ولأنها حق لله تعالى ولهم ، واحتج جماعة ببيعه مالها بدون ثمنه - مع أن المال أخف من النكاح ; لدخول البدل فيه والإباحة والمحاباة ، ويحكم بالنكول فيه - وبأن منعها تزويج نفسها كيلا يضعها في غير كفء ، فبطل العقد ; لتوهم العارفية ، فهاهنا أولى ; ولأن لله فيه نظرا ; ولأن الولي إذا زوجها بغير كفء يكون فاسقا .

                                                                                                                          ( والثانية : ليس بشرط ) للصحة ، بل للزوم ( وهي أصح ) اختارها أبو الخطاب ، وقدمها في " المحرر " و " الفروع " ، وجزم بها في " الوجيز " ، قال ابن حمدان : وهي أولى ; لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ الحجرات : 13 ] وزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه من عثمان وأبي العاصي ، ولا شك أن نسبه فوق نسبهما ، وفي [ ص: 51 ] الصحيحين أنه عليه السلام أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه ، وهي قرشية ، وفي البخاري : أن أبا حذيفة تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند ابنة الوليد ، وهو مولى لامرأة من الأنصار ، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، وفي الدارقطني أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال ، وما روي فيها يدل على اعتبارها في الجملة ، ولا يلزم منه اشتراطها ( لكن إن لم ترض المرأة والأولياء جميعهم ، فلمن لم يرض الفسخ ) ، ويكون النكاح صحيحا ; لما روى عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : جاءت فتاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه ; ليرفع بي خسيسته ، قال : فجعل الأمر إليها ، فقالت : قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء رواه أحمد والنسائي ، ويكون الفسخ فورا ، وكذا وتراخيا ، ذكره القاضي ، وذكره الشيخ تقي الدين ، ظاهر المذهب ; لأنه لنقص في المعقود عليه ، فهي حق الأولياء والمرأة ، وللأبعد الفسخ مع رضى الأقرب ; لما يلحقه من العار في الأشهر ، يؤيده قوله : ( فلو زوج الأب بغير كفء برضاها ، فللأخوة الفسخ ، نص عليه ) ; لأن الأخ ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة ، فملك الفسخ كالولي المساوي ، وقياس المذهب أن الفسخ يفتقر إلى حاكم .

                                                                                                                          فرع : الكفاءة المعتبرة في الرجل فقط ; لأنه عليه السلام لا مكافئ له ، وقد تزوج من أحياء العرب ، وفي " الانتصار " احتمال : يخير معتق تحت أمة ، وفي " الواضح " احتمال : يبطل بناء على الرواية إذا استغنى عن نكاح الأمة بحرة بطل . قال الكسائي : قولهم : لا أصل ، أي : لا حسب ولا فضل ، أي : لا مال ، وهي [ ص: 52 ] حق لله ، وعلى الثانية : حق للأولياء والمرأة فقط .

                                                                                                                          ( والكفاءة : الدين والمنصب ) هذا إحدى الروايتين ، وإليها ميل المؤلف ، أما الدين ; فلقوله تعالى أفمن كان مؤمنا [ السجدة : 18 ] الآية ، ويلزم منه نفي الاستواء من كل وجه ، صرح به القاضي وغيره ; لأن الفاسق مردود الشهادة والرواية ، غير مأمون ، مسلوب الولاية ، ناقص عند الله وعند خلقه ، قليل الحظ في الدنيا والآخرة .

                                                                                                                          وأما المنصب : فهو النسب ; لحديث عمر : ما الأكفاء ؛ قال : في الحسب رواه أبو بكر ; ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب ، ويأنفون من نكاح الموالي ، ويرون أن ذلك نقص وعار ( فلا تزوج عفيفة بفاجر ، ولا عربية بعجمي ) ; لفقد العفة والمنصب ( والعرب بعضهم لبعض أكفاء ) على المذهب ; لأنه عليه السلام زوج ابنتيه عثمان وأبا العاص ، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم ، وتزوج عبد الله بن عمر فاطمة بنت الحسين بن علي ، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة ، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وهذا يدل على أن العرب كلهم في مرتبة واحدة ، وفي مسند البزار ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ بن جبل مرفوعا ، قال : العرب بعضهم لبعض أكفاء ، والموالي بعضهم لبعض أكفاء إلا أن خالدا لم يسمع من معاذ ، ( وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء ) وإن تفاضلوا في الشرف كالعرب ( وعنه : لا تزوج قرشية لغير قرشي ، ولا هاشمية لغير هاشمي ) حكاها القاضي في " الجامع الكبير " ، وأبو الخطاب ، والشيخان ; إذ العرب فضلت الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقريش أخص به من سائر العرب ، وبنو هاشم أخص به من قريش ، يدل عليه قوله عليه السلام : إن الله اصطفى كنانة [ ص: 53 ] من ولد إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ورد الشيخ تقي الدين هذه الرواية ، وقال : ليس في كلام أحمد ما يدل عليه ، وإنما المنصوص عنه - كما ذكره ابن أبي موسى ، والقاضي - أن قريشا بعضهم لبعض أكفاء ، قال الشيخ تقي الدين : ومن قال : الهاشمية لا تتزوج بغير هاشمي ، بمعنى : أنه لا يجوز مارق من دين الإسلام ; إذ نصه : تزويج الهاشميات من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن بغير الهاشميين - ثابت في السنة ثبوتا لا يخفى .

                                                                                                                          ( وعنه : أن الحرية والصناعة واليسار من شروط الكفاءة ) أي : مع الدين والنسب ، فتكون خمسة ، قال ابن هبيرة : هذا هو المشهور عن أحمد ، واختارها القاضي في " تعليقه " ، والشريف وأبو الخطاب ، والمجد ، وصححها المؤلف في الحرية ، والشيرازي في اليسار ، وأما الحرية ; فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بريرة حين عتقت تحت عبد ، وإذا ثبت الخيار في الاستدامة ففي الابتداء أولى ; ولأن الرق نقصه كثير وضرره بين ; فإنه مشغول عن امرأته بخدمة سيده ، ولا ينفق نفقة الموسرين ولا على ولده ، وأما الصناعة ; فلأن ذلك نقص في عرف الناس أشبه نقص النسب ، وقد روي : العرب بعضهم لبعض أكفاء ، قبيلة لقبيلة ، وحي لحي ، ورجل لرجل ، إلا حائك أو حجام ذكره ابن عبد البر في " التمهيد " ، وذكر أنه حديث منكر ، وأن أحمد قال : العمل عليه لما سأله مهنا ، وأما اليسار ; فلأن في عرف الناس التفاضل في ذلك ; ولقوله عليه السلام لفاطمة بنت قيس حين أخبرته بخطابها ، فقال لها : أما معاوية فصعلوك لا مال له ; ولأن على الموسرة ضررا في إعسار زوجها ; لإخلاله بنفقتها ونفقة ولدها ( فلا تزوج حرة بعبد ) [ ص: 54 ] لانتفاء الحرية فيه ، ولا بمن بعضه رقيق ، واختلف فيمن مسه أو مس آباءه الرق ، هل يكون كفء لحرة الأصل ؛ فيه روايتان ( ولا بنت بزاز ) بياع البز ( بحجام ) ; لانتفاء الاستواء في الصنعة ( ولا بنت تانئ ) بالهمز ، بغير خلاف ، وهو صاحب العقار والمال ( بحائك ) ; لانتفاء اليسار ، وإن وجد فيه كثرة المال ، فالعبرة بالغالب ( ولا موسرة بمعسر ) وظاهره : ولو كان متوليا ، وقاله الشيخ تقي الدين ، وعلى هذا بقية الصنائع المزرية كالقيم والحمامي ; لأن ذلك نقص في عرف الناس ، وعنه : لا ; لأنه ليس بنقص لازم كالمرض ، وقيل : نساج كحائك ، وولد الزنا قيل : هو كفء لذات نسب ، وعنه : لا كعربية ، زاد الشافعي على ذلك : أن غير المنتسب إلى العلماء والصلحاء المشهورين ليس كفء للمنتسب إليهما .

                                                                                                                          تنبيه : اختلف في الكفاءة ، هل هي شرط للصحة أو للزوم ؛ وأنها هل تعتبر في اثنين أو جهة ؛ وقد سبق ، وقال القاضي ، وأبو الخطاب ، والمؤلف ، وجمع : كما في الشروط الخمسة ، وقال في " المجرد " : ومحلهما في الدين والمنصب ، وأما الثلاثة الباقية فلا يبطل رواية واحدة ، وجمع المجد بينهما فجعل فيها ثلاث روايات ، يختص البطلان بالدين والمنصب ، وقال في " المجرد " : يختص البطلان بالنسب فقط ، وقال الشيخ تقي الدين : لم أجد عن أحمد نصا ببطلان النكاح لفقر أو رق ، ولم أجد عنه نصا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب ، ونص على التفريق بالحياكة في رواية حنبل .

                                                                                                                          فرع : يجوز للعجمي أن يتزوج موالي بني هاشم ، نص عليه ، وقال في قوله : مولى القوم من أنفسهم هو في الصدقة ، وفي رواية مهنا : المنع ، ومن أسلم كفء لمن له أبوان في الإسلام ، نص عليه ، وأهل البدع ، قال أحمد في الرجل [ ص: 55 ] يزوج الجهمي : يفرق بينهما ، وكذا الواقفي إذا كان يخاصم ، وقال : لا يزوج بنته من حروري ولا رافضي ولا قدري ، فإن كان لا يدعو فلا بأس .

                                                                                                                          مسألة : لا تشترط الشهادة بخلوها عن الموانع الشرعية ، قال في " الترغيب " وغيره : ولا الإشهاد على إذنها ، وقيل : بلى ، ولا يزوجها العاقد نائب الحاكم بطريق الولاية حتى يعلم إذنها ، وإن ادعى زوج إذنها وأنكرت ، صدقت قبل الدخول لا بعده ، وفي " عيون المسائل " : تصدق الثيب ; لأنها تزوج بإذنها ظاهرا ، بخلاف البكر فإنه يزوجها أبوها بلا إذنها ، وفي دعوى الولي إذنها كذلك ، وقال الشيخ تقي الدين : قولها وإن ادعت الإذن فأنكر ورثته ، صدقت




                                                                                                                          الخدمات العلمية