الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية ، وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف ، نازلا إلى الأدون فالأدون ، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول فنقول : فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان ، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله . وقوله :( وجنات لهم ) إشارة إلى حصول المنافع العظيمة ، وقوله :( فيها نعيم ) إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات ؛ لأن النعيم مبالغة في النعمة ، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات ، وقوله :( مقيم ) عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة ، ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها :( مقيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله :( خالدين فيها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله :( أبدا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، وذلك هو حد الثواب ، وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة ، ومن المتكلمين من قال : قوله :( يبشرهم ربهم برحمة منه ) المراد منه خيرات الدنيا ، وقوله :( ورضوان وجنات ) المراد منه كونه تعالى راضيا عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله :( وجنات ) المراد منه المنافع وقوله :( لهم فيها نعيم ) المراد منه كون تلك النعم [ ص: 14 ] خالصة عن المكدرات ؛ لأن النعيم مبالغة في النعمة ، وقوله :( مقيم خالدين فيها أبدا ) المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول : المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله :( يبشرهم ربهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يفرح بالنعمة ؛ لأنها نعمة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه ، وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين ، فتأمل فيما إذا كان العبد واقفا في حضرة السلطان الأعظم ، وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته ، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها ، فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة ، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الإكرام ، فكذلك ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله :( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ) منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة وإنما فرح ؛ لأن مولاه خصه بتلك الرحمة ، وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضا درجات ، فمنهم من يكون فرحه بالراحم ؛ لأنه رحم ، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ، ولا يكون فرحه إلا بالمولى ؛ لأنه هو المقصد ؛ وذلك لأن العبد ما دام مشغولا بالحق من حيث إنه راحم فهو غير مستغرق في الحق ، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق ، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق ، وغرق في بحر نور الحق ، وغفل عن المحبة والمحنة ، والنقمة والنعمة ، والبلاء والآلاء ، والمحققون وقفوا عند قوله :( يبشرهم ربهم ) فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به ، وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ، ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية ، فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله :( يبشرهم ربهم برحمة منه ) فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم ، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشرا بالرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                            والمرتبة الثانية : هي أن يكون استبشاره بالرحمة وهذه المرتبة هي النازلة عند المحققين ، واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال :( يبشرهم ربهم ) وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله ، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين ، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها ، وتتقاصر الأفهام عن نعتها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب ، وهو مشتق من التربية كأنه قال : الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ، ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أنه تعالى قال :( ربهم ) فأضاف نفسه إليهم ، وما أضافهم إلى نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال :( يبشرهم ربهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والسادس : أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع ، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ، ألا ترى أن الفقهاء قالوا : لو أن رجلا قال : من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر ، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق ، والذين يخبرون بعده لا يعتقون ، وإذا كان الأمر كذلك فقوله :( يبشرهم ) لا بد أن يكون إخبارا عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك ، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن ، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها ألبتة ، رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 15 ] واعلم أنه تعالى لما قال :( يبشرهم ربهم ) بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : قوله :( برحمة منه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله :( ورضوان ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله :( ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [الفجر : 28] والرحمة كون العبد راضيا بقضاء الله ؛ وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله ؛ لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير .

                                                                                                                                                                                                                                            فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزها عن التغير ، أما من كان طالبا لمحض النفس كان أبدا في التغير من الفرح إلى الحزن ، ومن السرور إلى الغم ، ومن الصحة إلى الجراحة ، ومن اللذة إلى الألم ، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عندما يصير العبد راضيا بقضاء الله فقوله :( يبشرهم ربهم برحمة منه ) هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ، ويجعله راضيا بقضائه ، ثم إنه تعالى يصير راضيا . وهو قوله :( ورضوان ) وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله :( راضية مرضية ) وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية ، وهي قوله :( وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا ) وقد سبق شرح هذه المراتب ، ولما ذكر هذه الأحوال قال :( إن الله عنده أجر عظيم ) والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون : إن الخلود يدل على طول المكث ، ولا يدل على التأبيد ، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية ، وهي قوله تعالى :( خالدين فيها أبدا ) ولو كان الخلود يفيد التأبيد ، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكرارا وأنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية