الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 433 ] المسألة الثامنة

              الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين فكان أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه عند فرض الانفراد ، وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجودا ، أو عدما ، فإن المعتبر من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع .

              وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغى وساقط الاعتبار شرعا والدليل على ذلك أمور .

              أحدها : ما تقدم تقريره في المسألة قبلها ، هذا وإن كان الأمر والنهي هنالك غير صريح ، وهنا صريح ، فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية ولذلك نقول : إن القائل ببطلان البيع وقت النداء لم يبن على كون النهي تبعيا .

              وإنما [ ص: 434 ] بنى البطلان على كونه مقصودا .

              والثاني : أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين .

              أما أن يردا معا عليهما أو لا يردا ألبتة ، أو يرد أحدهما دون الآخر والأول غير صحيح ; إذ قد فرضناهما متلازمين ، فلا يمكن الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي فمن حيث أخذ في العمل صادمه النهي عنه ، ومن حيث تركه صادمه الأمر فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فعل أو ترك ، وهو تكليف بما لا يطاق ، وهو غير واقع فما أدى إليه غير صحيح .

              والثاني : كذلك أيضا ; لأن الفرض أن الطلبين توجها ، فلا يمكن ارتفاعهما معا فلم يبق إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني .

              وقد فرضنا أحدهما متبوعا ، وهو المقصود أولا والآخر تابعا ، وهو المقصود ثانيا فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع دون ما تعلق بالتابع ولا يصح العكس ; لأنه خلاف المعقول .

              والثالث : الاستقراء من الشريعة كالعقد على الأصول مع منافعها وغلاتها والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها ، فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه فللإنسان أن يتملك الرقاب ، ويتبعها منافعها وله أيضا أن [ ص: 435 ] يتملك أنفس المنافع خاصة ، وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع ، ويصح القصد إلى كل واحد منهما .

              فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها ، وذلك أن العقد في شراء الدار ، أو الفدان ، أو الجنة ، أو العبد ، أو الدابة ، أو الثوب ، وأشباه ذلك جائز بلا خلاف ، وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها ; لأن المنافع قد تكون موجودة والغالب أن تكون وقت العقد معدومة ، وإذا كانت معدومة امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ، ومن كل طريق ; إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك ، بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا ، فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها للنهي عن بيع الغرر والمجهول ، بل العقد على الأبضاع لمنافعها جائز ولو انفرد العقد على منفعة البضع لامتنع مطلقا إن كان وطئا ولامتنع فيما سوى البضع أيضا إلا بضابط [ ص: 436 ] يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم كالخدمة والصنعة ، وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد .

              والعكس كذلك أيضا كمنافع الأحرار يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة باتفاق ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق ، ومع ذلك فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة ; إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد ، وذلك أثر كون الرقبة معقودا عليها ، لكن بالقصد الثاني وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه ، وهو على الجملة يعطى أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء ، وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة .

              فإن قيل : هذا مشكل بأمور أحدها : أن العلماء قالوا : إن الرقاب - وبالجملة الذوات - لا يملكها إلا الله تعالى ، وإنما المقصود في التملك شرعا منافع الرقاب ; لأن المنافع هي التي تعود على العباد بالمصالح لا أنفس الذوات فذات الأرض ، أو [ ص: 437 ] الدار ، أو الثوب ، أو الدرهم مثلا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات ، وإنما يحصل المقصود بها من حيث إن الأرض تزدرع مثلا والدار تسكن والثوب يلبس والدرهم يشترى به ما يعود عليه بالمنفعة فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه ، وإذا كان كذلك فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة والرقاب لا تدخل تحت الملك ، فلا تابع ولا متبوع ، وإذا لم يتصور فيما تقدم وأشباهه تابع ومتبوع بطل فكل ما فرض من المسائل خارج عن تمثيل الأصل المستدل عليه ، فلا بد من إثباته أولا واقعا في الشريعة ، ثم الاستدلال عليه ثانيا .

              والثاني : إن سلمنا أن الذوات هي المعقود عليها فالمنافع هي المقصود أولا منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات فصار المقصود أولا هي المنافع ، وحين كانت المنافع لا تحصل على [ ص: 438 ] الجملة إلا عند تحصيل الذوات سعى العقلاء في تحصيلها فالتابع إذا في القصد هي الذوات والمتبوع هو المنافع فاقتضى هذا بحكم ما تحصل أولا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم المعدوم ، وذلك باطل ; إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم منافعه باتفاق ، بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء يتبعه ذات ذلك الشيء فاكتراء الدار يملك منفعتها ولا يتبعه ملك الرقبة ، وكذلك كل مستأجر من أرض ، أو حيوان ، أو عرض ، أو غير ذلك فهذا أصل منخرم إن كان مبنيا على أمثال هذه الأمثلة .

              والثالث : أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك ، فإنه قال : من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، وقال من باع عبدا وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع فهذان حديثان لم يجعلا [ ص: 439 ] المنفعة للمبتاع بنفس العقد مع أنها عندكم تابعة للأصول كسائر منافع الأعيان ، بل جعل فيهما التابع للبائع ولا يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكما ، وهو يعطى في الشرع انفصال التابع من المتبوع ، وهو معارض لما تقدم ، فلا يكون صحيحا .

              والرابع أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء ، وأرباب العوائد ، وإن فرض الأصل مقصودا فكلاهما مقصود ولذلك يزاد في ثمن الأصل بحسب زيادة المنافع ، وينقص منه بحسب نقصانها ، وإذا ثبت هذا فكيف تكون المنافع ملغاة ، وهي مثمونة معتد بها في أصل العقد مقصودة فهذا يقتضي القصد إليها ، وعدم القصد إليها معا ، وهو محال .

              ولا يقال : إن القصد إليها عادي ، وعدم القصد إليها شرعي فانفصلا ، فلا تناقض ; لأنا نقول : كون الشارع غير قاصد لها في الحكم مبني على عدم القصد إليها عرفا ، وعادة ; لأن من أصول الشرع إجراء الأحكام على العوائد .

              [ ص: 440 ] ومن أصوله مراعاة المصالح ، ومقاصد المكلفين فيها أعنى في غير العبادات المحضة ، وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع ، وأن المنافع مقصودة عادة وعرفا للعقلاء ثبت أن حكم الشرع بحسب ذلك .

              وقد قلتم : إن المنافع ملغاة شرعا مع الأصول ، فهي إذا ملغاة في عادات العقلاء ، لكن تقرر أنها مقصودة في عادات العقلاء هذا خلف محال .

              فالجواب عن الأول أن ما أصلوه صحيح ولا يقدح في مقصودنا ; لأن الأفعال أيضا ليس للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ماله في الصفات والذوات فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك تضاف إليهم الصفات والذوات ولا فرق بينهما إلا أن من الأفعال ما هو لنا مكتسب وليس لنا من الصفات ولا الذوات شيء مكتسب لنا ، وما أضيف لنا من الأفعال كسبا فإنما هي أسباب لمسببات هي أنفس المنافع والمضار ، أو طريق إليها ، ومن جهتها [ ص: 441 ] كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي .

              وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى حسبما تقرر في كتاب الأحكام فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا ، وإن كانت غير داخلة تحت قدرتنا كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق بنا ، ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف والتغيير كذبح الحيوان وقتله للمأكلة ، وإتلاف المطاعم والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس ، وما أشبه ذلك ، وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيا ، أو لم يكن مؤذيا ، وكان إتلافه تكملة لما ليس بضروري ولا حاجي من المنافع كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك ، وما أشبه ذلك فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغيير وغيرهما دليل على صحة تملكها شرعا ولا يبقى بيننا وبين من أطلق تلك العبارة أن الذوات لا يملكها إلا الله سوى الخلاف في اصطلاح .

              وأما حقيقة المعنى فمتفق عليها ، وإذا ثبت ملك الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها صح كون المنافع تابعة ، وتصور معنى القاعدة .

              والجواب عن الثاني : أنه إن سلم على الجملة فهو في التفصيل غير مسلم .

              أما أن المقصود المنافع فكذلك نقول : إلا أن المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها ، وذلك أن منافع الأعيان لا تنحصر ، وإن انحصرت [ ص: 442 ] الأعيان ، فإن العبد مثلا قد هيئ في أصل خلقته إلى كل ما يصلح له الآدمي من الخدم والحرف والصنائع والعلوم والتعبدات وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد تفوت الحصر وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى هذا ، وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور فدخوله في جنس واحد معرفا فيه ، أو في بعض أصنافه يكفي في حصر ما لا يتناهى من المنافع بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤاجرته عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره ، وكذلك كل رقبة من الرقاب ، وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها فالنظر إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع .

              وأما إذا نظرنا إلى المنافع ، فلا يمكن حصرها في حيز واحد ، وإنما يحصر منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال والإمكان فحصل القصد من جهتها جزئيا لا كليا ولم تنضبط المنافع من جهتها قصدا لا في الوقوع وجودا ولا في العقد عليها شرعا لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى حد محدود ، وشيء معلوم ، وذلك كله جزئي لا كلي .

              فإذا النظر إلى المنافع خصوصا نظر إلى جزئيات المنافع والكلي مقدم على الجزئي طبعا ، وعقلا ، وهو أيضا مقدم شرعا كما مر .

              [ ص: 443 ] فقد تبين من هذا على تسليم أن المقصود المنافع أن الذوات هي المقدمة المقصودة أولا المتبوعة ، وأن المنافع هي التابعة ، وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب لأجل المنافع ، وإن كانت غير معلومة ولا محصورة ، ومنع ملك المنافع خصوصا إلا على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان ; لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع فهو معلوم من جهة الكلية الحاصلة .

              بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها فإنها غير منضبطة في أنفسها ولا معلومة أمدا ولا حدا ولا قصدا ولا ثمنا ولا مثمونا .

              فإذا ردت إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها والقصد في العادة إليها ، فإن أجازه الشارع جاز ، وإلا امتنع .

              وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هي المقصودة فالرقاب تابعة ; إذ هي الوسائل إلى المقصود ، فإن أراد أنها تابعة لها مطلقا فممنوع بما تقدم ، وإن أراد تبعية ما فمسلم ولا يلزم من ذلك محظور ، فإن الأمور الكلية قد تتبع جزئياتها بوجه ما ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقا .

              [ ص: 444 ] وأيضا فالإيمان أصل الدين ، ثم إنك تجده وسيلة وشرطا في صحة العبادات حسبما نصوا عليه والشرط من توابع المشروط فيلزم إذا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هي الأصول والإيمان تابع لها أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال ، وينقص بنقصانها ، لكن ذلك باطل ، فلا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية .

              وكذلك نقول : إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول من حيث إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول ، فلا تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها ، وتحجيرها عن انتفاع صاحبها بها كالعقد على الأصول سواء ، وهو معنى الملك إلا أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها ، ومنقض بانقضائها فلم يسم في الشرع ولا في العرف ملكا ، وإن كان كذلك في المعنى ; لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي الذي لا ينقطع إلا بالموت ، أو بانتفاع صاحبها بها ، أو المعاوضة عليها .

              وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي ; لأنه لما ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته وامتنع شراء الشيء على شرط فيه تحجير [ ص: 445 ] كشراء الأمة على أن يتخذها أم ولد ، أو على أن لا يبيع ولا يهب ، وما أشبه ذلك ; لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة فكأنه لم يملكها ملكا تاما وليس بشركة ; لأن الشركة على الشياع ، وهذا ليس كذلك وانظر في تعليل مالك المسألة في باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في الموطأ ، فقد تبين أن هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم والحمد لله .

              والجواب عن الثالث أن ما ذكر فيه شاهد على صحة المسألة ، وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها على حكم التبعية للأصل فلما صار الأصل للمشتري ولم يكن ثم اشتراط ، وكانت قد أبرزت ، وتميزت بنفسها عن أصلها لم تنتقل المنفعة إليه بانتقال الأصل ; إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل إليه فلو صارت للمشتري إعمالا للتبعية لكان هذا العمل بعينه قطعا ، وإهمالا للتبعية بالنسبة إلى البائع ، وهو السابق في استحقاق التبعية فثبتت أنها له دون المشتري .

              وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل عنه أشبه الثمرة مع [ ص: 446 ] الأصل فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له ، فإن اشترطه المشتري ، فلا إشكال ، وإنما جاز اشتراطه ، وإن تعلق به المانع من أجل بقاء التبعية أيضا ، فإن الثمرة قبل الطيب مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه فأشبهت وصفا من أوصاف الأصل .

              وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه ، وإن لم يجز شراؤه وحده ; لأنه ملك العبد وفي حوزه لا يملكه السيد إلا بحكم الانتزاع كالثمرة التي لم تطب .

              فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق غير أن مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية جهة البائع وجهة المشتري فكان البائع أولى ; لأنه المستحق الأول ، فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية ، وهذا واضح جدا .

              والجواب عن الرابع أن القصد إلى المنافع لا إشكال في حصوله على الجملة ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى النظر : هل هي مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال أم هي مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه .

              فإن قلت : إنها مقصودة على حكم الاستقلال فغير صحيح ; لأن المنافع [ ص: 447 ] التي لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة ، ويجوز العقد عليها مع الأصل ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل فالقصد راجع إلى الأصل فالشجرة إذا اشتريت ، أو العبد قبل أن يتعلم خدمة ، أو صناعة ولم يستفد مالا والأرض قبل أن تكرى ، أو تزدرع ، وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع ، وغيرها ، لكن من جهة الأعيان والرقاب لا من جهة أنفس المنافع ; إذ هي غير موجودة بعد فليست بمقصودة إذا قصد الاستقلال ، وهو المراد بأنها غير مقصودة ، وإنما المقصود الأصل .

              فالمنافع إنما هي كالأوصاف في الأصل كشراء العبد الكاتب لمنفعة الكتابة ، أو العالم للانتفاع بعلمه ، أو لغير ذلك من أوصافه التي لا تستقل في أنفسها ولا يمكن أن تستقل ; لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات ، قد زيد في أثمان الرقاب لأجلها فحصل لجهتها قسط من الثمن [ ص: 448 ] لا من حيث الاستقلال ، بل من حيث الرقاب .

              وقد مر أن الرقاب هي ضوابط المنافع بالكلية ، وإذا ثبت اندفع التنافي والتناقض وصح الأصل المقرر والحمد لله .

              وحاصل الأمر أن الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة ، وإنما توجه الطلب إلى المتبوع خاصة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية