الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع : الإيغال

وسمي به لأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه ، وبلغ إلى زيادة على الحد يقال : أوغل في الأرض الفلانية إذا بلغ منتهاها ، فهكذا المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه بزيادة فيه فقد أوغل كقوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) ( المائدة : 50 ) ، فإن الكلام تم بقوله : ( ومن أحسن من الله حكما ) ، ثم احتاج إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى ، فلما أتى بها أفاد معنى زائدا .

وكقوله تعالى : ( ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) ( النمل : 80 ) فإن المعنى قد تم بقوله : ( ولا تسمع الصم الدعاء ) ، ثم أراد أن يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال : ( إذا ولوا مدبرين ) .

[ ص: 186 ] ، فإن قيل : ما معنى مدبرين وقد أغنى عنها " ولوا " قلت : لا يغني عنها " ولوا " ، فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب بدليل قوله : ( أعرض ونأى بجانبه ) ( الإسراء : 83 ) ، وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا . ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون ، أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب ؛ لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة ; فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهم السميع بالعبارة ، ثم إن التولي قد يكون بجانب ، مع لحاظه بالجانب الآخر ، فيحصل له إدراك بعض الإشارة ، فجعل الفاصلة مدبرين ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا ، فاحتجب المخاطب عن المخاطب أو صار من ورائه ، فخفيت عن عينه الإشارة ، كما صم أذناه عن العبارة ، فحصلت المبالغة من عدم الإسماع بالكلية ، وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع ألبتة ؛ فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع .

وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى ، يحملها معنى واحد كقوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) الآية ( الإسراء : 88 ) .

وقوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) ( البقرة : 23 ) .

وقوله : ( فأتوا بعشر سور مثله ) ( هود : 13 ) كما يقول الرجل لمن يجحد : ما يستحق علي درهما ولا دانقا ولا حبة ولا كثيرا ولا قليلا . ولو قال : " ما يستحق علي شيئا " لأغنى في الظاهر ، لكن التفصيل أدل على الاحتياط وعلى شدة الاستبعاد في الإنكار .

ومنه قوله تعالى : ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) ( يس : 21 ) فإن المعنى تم [ ص: 187 ] بقوله : " أجرا " ، ثم زاد الفاصلة لمناسبة رءوس الآي ، فأوغل بها كما ترى ؛ حيث أتى بها لقصد معنى زائد على معنى الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية