الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 238 ] ذكر ملك نور الدين حصن شيزر

نبتدئ بذكر هذا الحصن ، ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود بن زنكي ، فنقول : هذا الحصن قريب من حماة ، بينهما نصف نهار ، وهو على جبل عال منيع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة . وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف نصر بن علي بن المقلد بعد أبيه أبي الحسن علي ، فبقي ( بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ، وكان شجاعا كريما ; فلما حضره الموت استخلف أخاهأبا سلامة مرشد بن علي ، فقال : والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها .

وكان عالما بالقرآن والأدب ، وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ ، فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي ، واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان ، فأولد مرشد عدة أولاد ذكور ، وكبروا وسادوا ، منهم : عز الدولة أبو الحسن علي ، ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما ، ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور ، فحسد أخاه على ذلك ، وخاف أولاد أخيه على أولاده ، وسعى بينهم المفسدون فغيروا كلا منهما على أخيه ، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبيات شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه ، فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه ، وهي هذه الأبيات :


ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا وفي الصد والهجران إلا تناهيا     شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها
فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا     وطاوعت الواشين في وطالما
عصيت عذولا في هواها وواشيا     ومال بها تيه الجمال إلى القلى
وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا     ولا ناسيا ما أودعت من عهودها
وإن هي أبدت جفوة وتناسيا     ولما أتاني من قريضك جوهر
جمعت المعالي فيه لي والمعانيا     وكنت هجرت الشعر حينا لأنه
تولى برغمي حين ولى شبابيا

[ ص: 239 ]     وأين من الستين لفظ مفوق إذا
رمت أدنى القول منه عصانيا     وقلت أخي يرعى بني وأسرتي
ويحفظ عهدي فيهم وذماميا     ويجزيهم ما لم أكلفه فعله
لنفسي فقد أعددته من تراثيا     فما لك لما أن حنى الدهر صعدتي
وثلم مني صارما كان ماضيا     تنكرت حتى صار برك قسوة
وقربك منهم جفوة وتنابيا     وأصبحت صفر الكف مما رجوته
أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا     على أنني ما حلت عما عهدته
ولا غيرت هذي السنون وداديا     فلا غرو عند الحادثات فإنني
أراك يميني والأنام شماليا     تحل بها عذراء لو قرنت بها
نجوم السماء لم تعد دراريا     تحلت بدر من صفاتك زانها كما
زان منظوم اللآلي الغوانيا     وعش بانيا للمجد ما كان واهيا
مشيدا من الإحسان ما كان هاويا



وكان الأمر بينهما فيه تماسك ، فلما توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قلب أخوه لأولاده ظهر المجن ، وبادأهم بما يسوؤهم ، وأخرجهم من شيزر ، فتفرقوا وقصد أكثرهم نور الدين ، وشكوا إليه ما لقوا من عمهم ، فغاظه ذلك ، ولم يمكنه قصده والأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى وطنهم لاشتغاله بجهاد الفرنج ، ولخوفه أن يسلم شيزر إلى الفرنج .

ثم توفي سلطان وبقي بعده أولاده ، فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج فاشتد حنقه عليهم ، وانتظر فرصة تمكنه ، فلما خربت القلعة هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين بها أحد .

وسبب هلاكهم أجمعين أن صاحبها منهم كان قد ختن ولدا له ، وعمل دعوة للناس ، وأحضر جميع بني منقذ عنده في داره ، وكان له فرس يحبه ، ويكاد لا يفارقه ، وإذا كان في مجلس أقيم الفرس على بابه . وكان المهر في ذلك اليوم على باب الدار فجاءت الزلزلة ، فقام الناس ليخرجوا من الدار ، فلما وصلوا مجفلين إلى الباب [ ص: 240 ] ليخرجوا من الدار رمح الفرس رجلا كان أولهم فقتله ، وامتنع الناس من الخروج ، فسقطت الدار عليهم كلهم ، وخربت القلعة وسقط سورها وكل بناء فيها ، ولم ينج منها إلا الشريد ، فبادر إليها بعض أمرائه ، وكان بالقرب منها ، فملكها وتسلمها نور الدين منه ، فملكها وعمر أسوارها ودورها ، وأعادها جديدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية