الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب ، لما روى جابر ، وهي فرض من فروضها ; لأنها صلاة يجب فيها القيام ، فوجب فيها القراءة كسائر الصلوات وفي قراءة السورة وجهان : ( أحدهما ) : يقرأ سورة قصيرة ; لأن كل صلاة قرأ فيها الفاتحة قرأ فيها السورة كسائر الصلوات ( والثاني ) : لا يقرأ لأنها مبنية على الحذف والاختصار ، والسنة في قراءتها الإسرار لما روي { أن ابن عباس صلى بهم على جنازة فكبر ثم قرأ بأم القرآن فيجهر بها ، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال إنما جهرت بها لتعلموا أنها هكذا } " ولا فرق بين أن يصلي بالليل أو بالنهار ، وقال أبو القاسم الداركي : إن كانت الصلاة بالليل جهر فيها ; لأن لها نظيرا بالنهار يسر فيها فجهر فيها كالعشاء ، وهذا لا يصح ; لأن صلاة العشاء راتبة في وقت من الليل ولها نظير راتب في وقت من النهار يسن في نظيرها الإسرار فسن فيها الجهر وصلاة الجنازة صلاة واحدة ، ليس لها وقت تختص به من ليل أو نهار ، بل تفعل في الوقت الذي يوجد سببها ، وسننها الإسرار ، فلم يختلف فيها الليل والنهار ، وفي دعاء التوجه والتعوذ عند القراءة وجهان : قال عامة أصحابنا : لا يأتي به لأنها مبنية على الحذف والاختصار فلا تحتمل التطويل والإكثار ، وقال شيخنا أبو الطيب : يأتي به ; لأن التوجه يراد لافتتاح الصلاة والتعوذ يراد للقراءة وفي هذه الصلاة افتتاح وقراءة فوجب أن يأتي بذكرهما ) .

                                      [ ص: 191 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 191 ] الشرح ) حديث جابر سبق وذكرنا أنه ضعيف ويغني عنه في هذه المسألة حديث { ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنها سنة } رواه البخاري بهذا اللفظ ، وقوله : سنة هو كقول الصحابي رضي الله عنه : من السنة كذا ، فيكون مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح ، الذي قاله جمهور العلماء من أصحابنا في الأصول ، وغيرهم من الأصوليين والمحدثين . وفي رواية الشافعي وغيره بإسناد حسن ، فجهر بالقراءة وقال : إنما جهرت لتعلموا أنها سنة ، يعني لتعلموا أن القراءة مأمور بها . وأما الرواية التي ذكرها المصنف عن ابن عباس بزيادة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرواها البيهقي بإسناده عن غير ابن عباس من الصحابة فرواها عن عبادة بن الصامت ، وعن رجال من الصحابة رضي الله عنهم وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنهما قال { السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ، ثم يكبر ثلاثا ، والتسليم عند الآخرة } رواه النسائي بإسناد على شرط الصحيحين ، وأبو أمامة هذا صحابي . وقول المصنف ; لأنها صلاة يجب فيها القيام ، احتراز من الطواف وسجود التلاوة والشكر ( وقوله ) : كل صلاة قرأ فيها الفاتحة ، احتراز من الطواف والسجود أيضا .

                                      ( وقوله ) : الداركي ، هو بفتح الراء ، واسمه عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز تفقه على أبي إسحاق المروزي وتفقه عليه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وعامة شيوخ بغداد وغيرهم قال الشيخ أبو حامد : ما رأيت أفقه من الداركي توفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة من شوال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وهو ابن نيف وسبعين سنة .

                                      ( أما الأحكام ) فقراءة الفاتحة فرض في صلاة الجنازة بلا خلاف عندنا والأفضل أن يقرأها بعد التكبيرة الأولى ، فإن قرأها بعد تكبيرة أخرى غير الأولى جاز ، صرح به جماعة من أصحابنا ، ونقله القاضي أبو الطيب والروياني عنهم ، قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد ، والروياني وغيرهما : [ ص: 192 ] قال الشافعي في الأم : وأحب إذا كبر على الجنازة أن يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى ، وروى المزني في الجامع قال : وأحب أن يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى ، قال القاضي أبو الطيب : ، وهذا يدل على أن قراءة أم القرآن مستحبة إلا أن أصحابنا قالوا : هي واجبة لا تصح صلاة إلا بها ، قال : فيجب على هذا أن يكون معنى قول الشافعي : وأحب أن يكون [ القراءة ] في الأولى ، وأما أصل قراءتها فواجبة ، فرجع الاستحباب إلى موضعها ، هذا كلام القاضي أبي الطيب وموافقيه ، وقد نص الشافعي في الأم على المسألة في موضعين ، قال في الأولى منهما في أوائل كتاب الجنائز كما نقله القاضي وغيره عنه ، وقال في آخر كتاب الجنائز : ويقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى ، وقال في مختصر المزني : يكبر ويقرأ فاتحة الكتاب ، ثم يكبر الثانية فهذا النص مع النص الثاني في الأم محتملان ; لاشتراطها في الأولى ومحتملان أن الأفضل كونها في الأولى لكن يتعين أن المراد أن الأفضل كونها في الأولى للجمع بينه وبين نصه الأول في الأم كما قاله القاضي وموافقوه .

                                      واعلم أن عبارة المصنف هنا وفي التنبيه ، وعبارة أكثر الأصحاب أن يقرأ الفاتحة عقب التكبيرة الأولى ، وظاهره اشتراط كونها في الأولى ، لكن مجمل ما ذكره القاضي وموافقوه أن أصل الفاتحة واجب ، وكونها في الأولى أفضل ، وتجوز في الثانية مع إخلاء الأولى منها وقد يفهم هذا من قول المصنف في التنبيه : والواجب من ذلك النية والتكبيرات وقراءة الفاتحة ، ولم يقل وقراءتها في الأولى ولو كان يرى ذلك شرطا لقاله والله أعلم . واتفق الأصحاب على استحباب التأمين عقب الفاتحة هنا كما في سائر الصلوات وممن نقل الاتفاق عليه القاضي أبو الطيب في تعليقه . وفي قراءة السورة وجهان ذكر المصنف دليلهما ، وذكرهما مع المصنف جماعات من العراقيين والخراسانيين واتفقوا على أن الأصح أنه لا يستحب ، وبه قطع جمهور المصنفين ، ونقل إمام الحرمين إجماع العلماء عليه ، ونقله القاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون من أصحابنا عن الأصحاب مطلقا ( والثاني ) : يستحب سورة قصيرة ، ويستدل له سوى ما ذكره المصنف بما رواه أبو يعلى [ ص: 193 ] الموصلي في كتابه نحو كراسة من مسند ابن عباس { عن طلحة بن عبد الله بن عون قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وسورة فجهر فيها حتى سمعنا ، فلما انصرف أخذت بثوبه فسألته عن ذلك فقال : سنة وحق } إسناده صحيح والله أعلم .

                                      ( وأما ) دعاء الاستفتاح ففيه الوجهان المذكوران في الكتاب ، وذكرهما طائفة يسيرة مع المصنف واتفقوا على أن الأصح أنه لا يأتي به ومعناه أن المستحب تركه وبهذا قطع جمهور المصنفين ، وهو المنقول عن متقدمي الأصحاب كما قاله المصنف وغيره ( وأما ) التعوذ ففيه وجهان مشهوران : ( أصحهما ) : عند المصنف وأكثر العراقيين أنه لا يستحب ( وأصحهما ) : عند الخراسانيين وجماعات من العراقيين استحبابه ، وقطع به من العراقيين صاحب الحاوي ، وصححه إمام الحرمين والغزالي والبغوي والرافعي وآخرون من الخراسانيين ، وقطع به الروياني في الحلية وهو الصحيح لقول الله عز وجل { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وبالقياس على غيرها مع أنه مختصر لا تطويل فيه فهو يشبه التأمين .

                                      ( وأما ) الجهر والإسرار فاتفق الأصحاب على أنه يسر بغير القراءة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء واتفقوا على أنه يجهر بالتكبيرات والسلام ، واتفقوا أيضا على أنه يسر بالقراءة نهارا ، وفي الليل وجهان : ذكر المصنف دليلهما " أصحهما " عند جمهور الأصحاب وبه قطع جماعات منهم أنه يسر أيضا كالدعاء .

                                      ( والثاني ) : يستحب الجهر ، قاله الداركي ، وصرح به صاحبه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وصاحباه المحاملي وسليم الرازي في الكفاية والبندنيجي ونصر المقدسي في كتابيه التهذيب والكافي ، والصيدلاني ، وصححه القاضي حسين واستحسنه السرخسي ، والمذهب الأول ، ولا يغتر بكثرة القائلين بالجهر فهم قليلون جدا بالنسبة إلى الآخرين ، وظاهر نص الشافعي في المختصر الإسرار ; ; لأنه قال : ويخفي القراءة والدعاء ، ويجهر بالتسليم ، هذا نصه ، ولم يفرق بين الليل والنهار ، ولو كانا يفترقان [ ص: 194 ] لذكره ، ويحتج له من السنة بحديث أبي أمامة بن سهل الذي ذكرناه والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية