الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            35 - دفع التعسف عن إخوة يوسف

            بسم الله الرحمن الرحيم

            مسألة : في رجلين قال أحدهما : إن إخوة يوسف عليه السلام أنبياء ، وقال الآخر : ليسوا بأنبياء فمن أصاب ؟

            الجواب : في إخوة يوسف عليه السلام قولان للعلماء ، والذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم ليسوا بأنبياء ، أما السلف فلم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم قالوا بنبوتهم - كذا قال ابن تيمية ، ولا أحفظه عن أحد من التابعين ، وأما أتباع التابعين ، فنقل عن ابن [ ص: 368 ] زيد أنه قال بنبوتهم ، وتابعه على هذا فئة قليلة ، وأنكر ذلك أكثر الأتباع فمن بعدهم ، وأما الخلف ، فالمفسرون فرق ؛ منهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي ، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي ، والإمام فخر الدين ، وابن كثير ، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي ، ومنهم من لم يتعرض للمسألة ، ولكن ذكر ما يدل على عدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبئ من بني إسرائيل ، والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي ، والواحدي ، ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ، ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب ، فحسبه ناس قولا بنبوتهم ، وإنما أريد بهم ذريته لا بنوه لصلبه ، كما سيأتي تحرير ذلك ، قال القاضي عياض في الشفا : إخوة يوسف لم تثبت نبوتهم ، وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء قال المفسرون : يريد من نبئ من أبناء الأسباط ، فانظر إلى هذا النقل عن المفسرين من مثل القاضي ، وقال ابن كثير : اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر سياق القرآن يدل على خلاف ذلك ، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوى قوله تعالى : ( وما أنزل إلى إبراهيم ) إلى قوله ( والأسباط ) وهذا فيه احتمال ; لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم : الأسباط كما يقال للعرب : قبائل ، وللعجم : شعوب ، فذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالا ; لأنهم كثيرون ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم . انتهى .

            وقال الواحدي : الأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ، وكان في الأسباط أنبياء ، وقال في قوله تعالى : ( ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ) يعني المختصين بالنبوة منهم ، وقال السمرقندي في قوله تعالى : ( وما أنزل إلينا ) إلى قوله : ( والأسباط ) السبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب ، وما أنزل على أنبيائهم وهم كانوا يعملون به ، فأضاف إليهم كما أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأضاف إلى أمته ، فقال : وما أنزل إلينا فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم ; لأنهم كانوا يعملون به ، وقال في قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك ) إلى قوله : ( والأسباط ) هم أولاد يعقوب أوحي إلى أنبيائهم ، ثم رأيت الشيخ تقي الدين بن تيمية ألف في هذه المسألة مؤلفا خاصا قال فيه ما ملخصه : الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوةيوسف ليسوا بأنبياء [ ص: 369 ] وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أصحابه خبر بأن الله تعالى نبأهم ، وإنما احتج من قال : إنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة والنساء ( والأسباط ) وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب ، والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال فيهم أيضا بنو إسرائيل ، وقد كان في ذريته الأنبياء فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل ، قال أبو سعيد الضرير : أصل السبط شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فسموا الأسباط لكثرتهم ، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب ، ومثل السبط الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ، وقال تعالى : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل كل سبطة أمة لا أنهم بنوه الاثنا عشر ، بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطا ، فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس ، ومن قال : الأسباط أولاد يعقوب لم يرد أنهم أولاده لصلبه ، بل أراد ذريته كما يقال : بنو إسرائيل وبنو آدم ، فتخصيص الآية ببنيه لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ، ولا المعنى ، ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا ، والصواب أيضا : أن كونهم أسباطا إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة ، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا يوسف ، ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال : ومن ذريته داود وسليمان الآيات ، فذكر يوسف ومن معه ، ولم يذكر الأسباط فلو كان إخوة يوسف نبئوا كما نبئ يوسف لذكروا معه ، وأيضا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة ، وإن كان قبل النبوة كما قال عن موسى : ( ولما بلغ أشده ) الآية ، وقال في يوسف كذلك ، وفي الحديث " أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي من نبي من نبي " فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم ، وهو تعالى لما قص قصة يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة ، ولا شيئا من خصائص الأنبياء ، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم ، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار ، ولا ذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء لا قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد ، وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم وبيعه إلى بلاد [ ص: 370 ] الكفر والكذب البين ، وغير ذلك مما حكاه عنهم ، ولم يحك عنهم شيئا يناسب الاصطفاء والاختصاص الموجب لنبوتهم بل الذي حكاه يخالف ذلك بخلاف ما حكاه عن يوسف ، ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف لآية غافر ، ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر وظهرت أخبار نبوته ، فلما لم يكن ذلك علم أنه لم يكن منهم نبي ، فهذه وجوه متعددة يقوي بعضها بعضا .

            وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا ، وأوصى بنقله إلى الشام فنقله موسى .

            والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حصل من ظن أنهم هم الأسباط ، وليس كذلك ، إنما الأسباط ذريتهم الذين قطعوا أسباطا من عهد موسى ، كل سبط أمة عظيمة ، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال : ويعقوب وبنيه فإنه أوجز وأبين ، واختير لفظ الأسباط على لفظ بني إسرائيل ؛ للإشارة إلى أن النبوة إنما حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى ، هذا كله كلام ابن تيمية ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية