الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم ، واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل ، كما يقال : نسي وخشي ، وشظي الفرس : إذا اعتلت هذه الأعضاء . جعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة ، كما قالوا : فلان هلك حياء من كذا ، ومات حياء ، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء ، وذاب حياء ، وإذا ثبت هذا استحال الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن ، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم ، ولكنه وارد في الأحاديث . روى سلمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا " ، وإذا كان كذلك وجب تأويله ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو القانون في أمثال هذه الأشياء ؛ أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض ، مثاله أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى ، أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح ، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضب له علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب وشهوة الانتقام ، وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ - أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب - بل المراد تلك النهاية وهو إنزال العقاب ، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال ، وهذا فن بديع من الكلام ، ثم [ ص: 123 ] قال القاضي : ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتا فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضا عليه ، وإنما يقال : إنه لا يوصف به ، فأما أن يقال : لا يستحي ، ويطلق عليه ذلك فمحال ؛ لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] ، وقوله : ( لم يلد ولم يولد ) [ الإخلاص : 3 ] فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله : ( ما اتخذ الله من ولد ) [ المؤمنون : 91 ] ، وكذلك قوله : ( وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] ، وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزا أن يطلق في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه ، فكان الإخبار عن انتفائها صدقا فوجب أن يجوز . بقي أن يقال : إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه ، فنقول : هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره ، بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضا كان ذلك أحسن من حيث إنه يكون مبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية