الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            37 - الحبل الوثيق في نصرة الصديق .

            بسم الله الرحمن الرحيم .

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد ، فقد رفع إلي سؤال في قوله تعالى : ( لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) إلى آخر السورة ، هل نزل ذلك في رجلين معينين ؟ وما سبب نزوله ؟ وهل المراد بالأتقى أبو بكر الصديق أو الآية عامة فيه وفي غيره ؟ وذكر السائل أن السبب في هذا السؤال أن الأمير ازدمر حاجب الحجاب والأمير خاير بك من حديد وقع بينهما تنازع في أبي بكر رضي الله عنه : هل هو أفضل الصحابة ؟ وأن خاير بك قائل بذلك ، وأن ازدمر [ ص: 388 ] ينكر ذلك ، وأنه طالب خاير بك بدليل من القرآن على أن أبا بكر أفضل ، وأن خاير بك استدل عليه بقوله تعالى : ( وسيجنبها الأتقى ) ؛ فإنها نزلت في حق أبي بكر ، وقد قال الله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأن ازدمر قال : الأتقى عام في أبي بكر وغيره ، وطالب كل منهما الآخر بشهادة العلماء له بنصره قوله ، وأن الشيخ شمس الدين الجوجري كتب على سؤال نظير هذا السؤال . فقلت : أرني ما كتب . فأرانيه ، فإذا فيه أن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، فقلت : هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد ، والرجل فقيه ، فما له يتكلم في غير فنه ؟ وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية ، فمن لم يكن متبحرا في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة ، وأنا أوضح الكلام عليها في فصلين :

            الفصل الأول : في تقرير أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه ، قال البزار في مسنده : حدثنا بعض أصحابنا عن بشر بن السري ، ثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : نزلت هذه الآية وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) إلى آخر السورة في أبي بكر الصديق ، وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، ثنا هارون بن معروف ، ثنا بشر بن السري به ، وقال ابن المنذر في تفسيره : حدثنا موسى بن هارون ، ثنا هارون بن معروف ، ثنا بشر بن السري به ، وقال الآجري في الشريعة : ثنا أبو بكر بن أبي داود ، ثنا محمود بن آدم المروزي ، ثنا بشر بن السري به ، وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : ثنا أبي ، ثنا محمد بن أبي عمر العدني ، ثنا سفيان ، ثنا هشام بن عروة عن أبيه ، أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله ، منهم بلال وعامر بن فهيرة ، وفيه نزلت : ( وسيجنبها الأتقى ) إلى آخر السورة ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، ثنا ابن ثور ، عن معمر قال : أخبرني عن سعيد في قوله : ( وسيجنبها الأتقى ) قال : نزلت في أبي بكر ، أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال وعامر بن فهيرة ، وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي عتيق ، عن عامر بن عبد الله ، عن أبيه قال : قال أبو قحافة لأبي بكر : أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون [ ص: 389 ] دونك . فقال : يا أبت ، إني إنما أريد ما أريد . ثم نزلت هذه الآيات فيه : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق زياد البكائي عن ابن إسحاق ، وقال : صحيح على شرط مسلم . وقال ابن جرير : حدثني هارون بن إدريس الأصم ، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، ثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء ، فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك . فقال : أي أبت ، إنما أريد ما عند الله . قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) إلى قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) وقال ابن أبي حاتم : ثنا أبي ، ثنا منصور بن أبي مزاحم ، ثنا ابن أبي الوضاح ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق ، فأعتقه لله ، فأنزل الله ( والليل إذا يغشى ) إلى آخرها في أبي بكر وأمية بن خلف . وقال الآجري في الشريعة : ثنا حامد بن شعيب أبو العباس البلخي ، ثنا منصور بن أبي مزاحم ، ثنا أبو سعيد المؤدب عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواق فأعتقه لله ، فأنزل الله ( والليل إذا يغشى ) ، إلى قوله : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ) يعني أبا بكر ، ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قال : لم يصنع ذلك أبو بكر ليد كانت منه إليه فيكافئه بها ، ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ، وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق في بلال حين قال : أتبيعنيه ؟ قال : نعم أبيعه بقسطاس ؛ عبد لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا يأبى الإسلام ، فاشتراه أبو بكر به ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده . فأنزل الله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وفي تفسير القرطبي روى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال : عذب المشركون بلالا فاشتراه أبو بكر برطل من [ ص: 390 ] ذهب من أمية بن خلف وأعتقه ، فقال المشركون : ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده . فنزلت ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) . قال الآجري : هذا وما قدمناه من الأحاديث يدل على أن الله خص أبا بكر بأشياء فضله بها على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم .

            فهذا ما يتعلق بنزول الآية ، وهو من علم الحديث ، ويأتي في الفصل بعد هذا ما يتعلق بها من العلوم الأربعة : التفسير والكلام وأصول الفقه والنحو ، وقد تواردت خلائق من المفسرين لا يحصون على أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه ، وكذا أصحاب الكتب المؤلفة في المبهمات .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية