الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 225 ]

القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( ذلك الكتاب ) .

قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

247 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : "ذلك الكتاب " قال : هو هذا الكتاب .

248 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب .

249 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، في قوله "ذلك الكتاب " قال : هذا الكتاب .

250 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود . قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : "ذلك الكتاب " : هذا الكتاب .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون "ذلك " بمعنى "هذا " ؟ و "هذا " لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و "ذلك " إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ [ ص: 226 ]

قيل : جاز ذلك ، لأن كل ما تقضى ، بقرب تقضيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر - فكالحاضر عند المخاطب . وذلك كالرجل يحدث الرجل الحديث فيقول السامع : "إن ذلك والله لكما قلت " ، و "هذا والله كما قلت " ، و "هو والله كما ذكرت " ، فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب ، إذ كان قد تقضى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر ، لقرب جوابه من كلام مخبره ، كأنه غير منقض . فكذلك "ذلك " في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل " ذلك الكتاب " "الم" ، التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، هذا الذي ذكرته وبينته لك ، الكتاب . ولذلك حسن وضع "ذلك " في مكان "هذا " ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله "الم" من المعاني ، بعد تقضي الخبر عنه ب "الم" ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه ، كالحاضر المشار إليه ، فأخبر به ب "ذلك " لانقضائه ، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب ، وترجمه المفسرون : أنه بمعنى "هذا " ، لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه ب "هذا " ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر ) سورة ص : 48 ، 49 فهذا ما في "ذلك " إذا عنى بها "هذا " .

وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك ، هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى "ذلك " "هذا الكتاب " ، [ ص: 227 ] إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة ، من جملة جميع كتابنا هذا ، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون ، لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في "ذلك " .

وقد وجه معنى "ذلك " بعضهم ، إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السلمي :


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيممت مالكا


أقول له ، والرمح يأطر متنه :     تأمل خفافا ، إنني أنا ذلكا



كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فزعم أن "ذلك الكتاب " بمعنى "هذا " ، نظيره . أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب ، وهو مخبر عن نفسه . فكذلك أظهر "ذلك " بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد .

والقول الأول أولى بتأويل الكتاب ، لما ذكرنا من العلل .

وقد قال بعضهم : ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه [ ص: 228 ] تأويل "ذلك " إلى هذا الوجه ، فلا مؤونة فيه على متأوله كذلك ، لأن "ذلك " يكون حينئذ إخبارا عن غائب على صحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية