الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال القفال : ( فائدة ) القتال على الدين لا ينكره منصف ; وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره [ المرء ] [ ص: 51 ] على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم " اهـ . ما أورده ( الرازي ) عن ( القفال ) وأقره .

                          أقول : إن هذا القول الباطل مبني على قواعد غير ثابتة ( منها ) توهم القفال والرزاي أن الأمم السابقة لم يكن عندها جهاد ديني قوي ولا إكراه على الدين ، وذلك لقلة اطلاعهما على الأديان والتاريخ ، والصواب أن أهل الكتاب كانوا أشد من المسلمين في حروبهم الدينية وورد عنهم في الإكراه على الدين ما لم يرد مثله عن المسلمين .

                          ( ومنها ) أن الإكراه على الدين منفي من الإسلام بنص القرآن ، ولم يحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام وإنما حارب دفاعا ، وكيف يحاول الإكراه والله - تعالى - يقول له : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 : 99 ] ومن أراد التفصيل في ذلك فليرجع إلى تفسير آيات القتال في البقرة وآية لا إكراه في الدين [ 2 : 256 ] .

                          ( ومنها ) أن هذا القول يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن الدعوة إلى الإسلام والإلزام به ، والآية السابقة ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تقتضي أن يكون الأمر والنهي غير تلك الدعوة وغير الإلزام بقبوله بها وهو عمل لا إرشاد وتعليم . [ ومنها ] أن فريضتي الأمر والنهي غير فريضة تغيير المنكر الذي ورد في الحديث وقد تقدم بيان ذلك . [ ومنها ] أن هذا القول مخالف لقوله - تعالى - في سورة الحج في وصف المؤمنين بعد الإذن لهم بقتال المعتدين عليهم : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر [ 22 : 41 ] فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم بعد التمكن في الأرض ; وذلك لا يكون بالجهاد بل بعده .

                          فيا للعجب من هؤلاء العلماء يأخذون المسألة التقليدية قضية مسلمة ثم يحكمونها في كتاب الله - تعالى - ، ويجعلونها قاعدة لتفسيره وإن كانت مخالفة لآياته الصريحة ، ثم هم يأتون بما يدل على أن أعظم ما يمتاز به الإسلام هو اتباع الدليل ونزع قلائد التقليد ، وهم مصرون على تقلد هذه القلائد . ألم تتأمل ما قاله ( القفال ) في فائدته وأنه لا يعني بأكثر الناس الذين يحبون أديانهم بحسب الإلف والعادة إلا غير المسلمين ، يعني أن المسلمين وحدهم هم الذين يتمسكون بالدلائل فلا يقبلون في دينهم شيئا بغير دليل وبهذا كان لهم الحق عنده بإكراه غيرهم على ما هم عليه ليكون مثلهم في الخيرية . وأين المسلمون من هذه المزية اليوم وفي زمن ( القفال ) أيضا ؟ !

                          ثم إن السؤال الذي أورده ( الرازي ) وارتضى في جوابه ما قاله ( القفال ) مبني على [ ص: 52 ] أن قوله - تعالى - : خير أمة أخرجت للناس معناه خير أمة ظهرت لهم منذ وجدوا ، وهو أحد الأقوال التي أوردها في معنى العبارة قال : والثاني أن قوله : للناس من تمام قوله : كنتم والتقدير : كنتم للناس خير أمة ، ومنهم من قال : أخرجت صلة ، والتقدير : كنتم خير أمة للناس اهـ . وهذا الأخير أضعف الأقوال .

                          والأستاذ الإمام لم يتعرض لهذا السؤال ، والظاهر عندي أن تعليل الخيرية بما ذكر هنا ليس لأنه كل السبب في كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، بل لأن ما كانت به خير أمة لا يحفظ ولا يدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة ; ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقة للبقاء في الأرض ، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة ، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه ، فقول الرازي : " إن هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم " غير صحيح على إطلاقه .

                          وقد أورد ( الرازي ) هنا سؤالا آخر وأجاب عنه فقال : " لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد أن يكون مقدما على كل الطاعات ؟ والجواب : أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ، ثم إنه - تعالى - فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل ، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم ، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم ; لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية ، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير ; فلهذا السبب قدم الله - تعالى - ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان " اهـ . بما فيه من تكرار .

                          وقال الأستاذ الإمام : أما تقديم ذكر الأمر والنهي على الإيمان فالحكمة فيه أن هذه الصفة ( الأمر والنهي ) محمودة في عرف جميع الناس : مؤمنهم وكافرهم ، يعترفون لصاحبها بالفضل ولما كان الكلام في خيرية هذه الأمة على جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم قدم الوصف المتفق على حسنه عند المؤمنين والكافرين ، وهناك حكمة أخرى وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان وحفاظه ( كما تقدم بيانه ) فكان تقديمه في الذكر موافقا لمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه .

                          أقول : كل ذلك حسن ، والمتبادر عندي أن تقديم الأمر والنهي للتعريض بأهل الكتاب [ ص: 53 ] الذين كانوا يدعون الإيمان ولا يقدرون على ادعاء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه ، وادعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه ، فقدم ذكر الأمر والنهي لأنهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه ، وأخر ذكر الإيمان الذي يدعونه ليرتب عليه بيان أنه إيمان غير صحيح ; لأنه لم يأت بثمر الإيمان الصحيح ; ولذلك قال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية