الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  868 33 - حدثنا عبدان قال : أخبرنا عبد الله قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن ابن وديعة ، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ، ثم ادهن أو مس من طيب ، ثم راح فلم يفرق بين اثنين ، فصلى ما كتب له ، ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فلم يفرق بين اثنين " والحديث قد مضى في باب الدهن للجمعة أخرجه عن آدم بن أبي إياس ، عن ابن أبي ذئب إلى آخره ، وقد تكلمنا هناك على ما يتعلق به من سائر الوجوه ، لكن لم نمعن في الكلام في التفريق بين اثنين ، ونذكره هاهنا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  وعبدان بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة ، وهو لقب عبد الله بن عثمان ، أبو عبد الرحمن المروزي ، وقد تكرر ذكره ، وعبد الله هو ابن المبارك ، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن ، وقد تكرر ذكره ، وأبو سعيد اسمه كيسان ، وابن وديعة اسمه عبد الله ، ووديعة بفتح الواو ، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى .

                                                                                                                                                                                  واختلفوا في التفرقة بين اثنين ، والأشبه بتأويله أن لا يتخطى رجلين أو يجلس بينهما على ضيق الموضع ، ويؤيده ما في ( الموطأ ) عن أبي هريرة : " لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام جاء يتخطى رقاب الناس " ، ومعناه أن المأثم عنده في التخطي أكثر من المأثم في التخلف عن الجمعة ، كذا تأوله القاضي أبو الوليد .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عبد الملك : إن صلاته بالحرة ، وهي حجارة سود بموضع يبعد عن المسجد خير له ، ورواه ابن أبي شيبة بلفظ " لأن أصلي بالحرة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة " ، وعن سعيد بن المسيب مثله .

                                                                                                                                                                                  وقال كعب : لأن أدع الجمعة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة .

                                                                                                                                                                                  وقال سلمان : إياك والتخطي ، واجلس ، وهو قول عطاء والثوري ، وأحمد .

                                                                                                                                                                                  وقد ورد في هذا الباب أحاديث منها ما رواه الترمذي من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم " ، وقال : حديث سهل بن معاذ عن أبيه حديث غريب ، ومنها : حديث جابر بن عبد الله " أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فجعل يتخطى الناس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجلس ; فقد آذيت وآنيت " أخرجه ابن ماجه ، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف ، ومنها : حديث عبد الله بن بسر رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد من رواية أبي الزاهرية ، واسمه صدير بن كريب ، قال : كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فجاء رجل يتخطى رقاب الناس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اجلس فقد آذيت ، ومنها حديث عبد الله بن عمرو رواه أبو داود بإسناد حسن من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اغتسل يوم الجمعة : إلى آخره ، وفيه " ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا " يعني : لا تكون له كفارة لما بينهما ، ومنها : حديث الأرقم أخرجه أحمد في مسنده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الذي يتخطى رقاب الناس ، ويفرق بين اثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار " ، ورواه الطبراني أيضا في ( المعجم الكبير ) ، وفي سنده هشام بن زياد ، ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي ، ومنها : حديث عثمان بن الأزرق أخرجه الطبراني في ( الكبير ) ، ولفظه : " من تخطى رقاب الناس بعد خروج الإمام ، وفرق بين اثنين كان [ ص: 208 ] كالجار قصبه في النار " .

                                                                                                                                                                                  وقال الذهبي : عثمان بن الأزرق له صحبة ، قاله في معجم الطبراني ، ومنها : حديث أبي الدرداء أخرجه الطبراني في ( الأوسط ) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأكل متكئا ، ولا تخط رقاب الناس يوم الجمعة " ، وفي سنده عبد الله بن رزيق ، قال الأزدي : لم يصح حديثه ، ومنها : حديث أنس رضي الله تعالى عنه ، أخرجه الطبراني أيضا ، قال : " بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ جاء رجل فتخطى رقاب الناس " الحديث ، وفيه " رأيتك تخطى رقاب الناس وتؤذيهم ، من آذى مسلما فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل " ، قوله : “ اتخذ جسرا " قال شيخنا في ( شرح الترمذي ) : المشهور " اتخذ " على بناء المجهول ، بمعنى : يجعل جسرا على طريق جهنم ليوطأ ، ويتخطى كما تخطى رقاب الناس ، فإن الجزاء من جنس العمل ، ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل ، أي : اتخذ لنفسه جسرا يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك ، قوله : “ وآنيت " أي : أخرت المجيء وأبطأت ، قوله : “ قصبه " القصب بضم القاف المعاء ، وجمعه أقصاب ، وقيل : القصب اسم للأمعاء كلها ، وقيل : هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء ، قوله : “ متكئا " أي : حال كونك متكئا .

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب التوضيح : وقد اختلف العلماء في التخطي ، فمذهبنا أنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصلها إلا بالتخطي ، فلا يكره حينئذ ، وبه قال الأوزاعي وآخرون .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر بكراهته مطلقا عن سلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، وكعب ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وأحمد بن حنبل ، وعن مالك كراهته إذا جلس الإمام على المنبر ، ولا بأس به قبله .

                                                                                                                                                                                  وقال قتادة : يتخطاهم إلى مجلسه .

                                                                                                                                                                                  وقال الأوزاعي : يتخطاهم إلى السعة ، وهذا يشبه قول الحسن ، قال : لا بأس بالتخطي إذا كان في المسجد سعة .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو بصرة : يتخطاهم بإذنهم .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر : لا يجوز شيء من ذلك عندي ; لأن الأذى يحرم قليله وكثيره .

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب التوضيح : وهو المختار ، وعند أصحابنا الحنفية : لا بأس بالتخطي ، والدنو من الإمام إذا لم يؤذ الناس ، وقيل : لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة ، ويكره إن أخذ .

                                                                                                                                                                                  وقال الحلواني : الصحيح أن الدنو من الإمام أفضل لا التباعد منه ، ثم تقييد التخطي بالكراهة يوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث ، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم ، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة ، وكذا هو عبارة الشافعي في ( الأم ) : وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا التعليل يشمل يوم الجمعة وغيره من سائر الصلوات في المساجد وغيرها ، وسائر المجامع من حلق العلم ، وسماع الحديث ، ومجالس الوعظ ، وعلى هذا يحمل التقييد بيوم الجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس بخلاف غيره ، ويؤيد ذلك ما رآه أبو منصور الديلمي في ( مسند الفردوس ) من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تخطى حلقة قوم بغير إذنهم فهو عاص " ، ولكنه ضعيف ; لأنه من رواية جعفر بن الزبير ، فإنه كذبه شعبة وتركه الناس .

                                                                                                                                                                                  ثم اختلفوا في كراهة ذلك : هل هو للتحريم أو لا ، فالمتقدمون يطلقون الكراهة ويريدون كراهة التحريم ، وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه ، وحكى الرافعي في الشهادات عن صاحب ( العدة ) أنه عده من الصغائر ، ونازعه الرافعي وقال : إنه من المكروهات ، وقال في باب الجمعة : إن تركه من المندوبات ، وصرح النووي في ( شرح المهذب ) بأنه مكروه كراهة تنزيه ، وقال في ( زوائد الروضة ) : إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة ، واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط .

                                                                                                                                                                                  وقال شارح الترمذي : ويستثنى من التحريم أو الكراهة الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ، وأطلق النووي في ( الروضة ) استثناء الإمام ، ومن بين يديه فرجة ، ولم يقيد الإمام بالضرورة ، ولا الفرجة بكون التخطي إليها يزيد على صفين ، وقيد ذلك في ( شرح المهذب ) ، فقال : فإن كان إماما لم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب إلا بالتخطي لم يكره ; لأنه ضرورة .

                                                                                                                                                                                  وفي ( الأم ) : فإن كان الزحام دون الإمام لم أكره له من التخطي ما أكره للمأموم ; لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة .

                                                                                                                                                                                  وقال في ( الأم ) أيضا : فإن كان دون مدخل الرجل زحام ، وأمامه فرجة ، وكان تخطيه إليها بواحد أو اثنين رجوت أن يسعه التخطي ، وإن كرهته ، إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلى فيه الجمعة إلا أن يتخطى فيسعه التخطي إن شاء الله تعالى ، ونقل النووي عن الشافعي في ( الفروق ) أنه إذا وصل إليها بتخطي واحد أو اثنين فلا بأس به ، فإن كان أكثر من ذلك كرهت له أن يتخطى ، ثم لا فرق في كراهة التخطي أو تحريمه بين أن يكون المتخطي من ذوي الحشمة والأصالة أو رجلا صالحا أو ليس فيه وصف منهما ، ونقل صاحب ( البيان ) عن القفال أنه لو كان محتشما أو محترما لم يكره التخطي . قلت : هذا ليس بشيء ، والأصل عدم [ ص: 209 ] التخصيص .

                                                                                                                                                                                  وقال المتولي : إذا كان له موضع يألفه وهو معظم في نفوس الناس : لا يكره له التخطي . قلت : فيه نظر .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية