الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  881 45 - وقال محمود : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة قال : أخبرتني فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها والناس يصلون قلت : ما شأن الناس ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقلت : آية ؟ فأشارت برأسها ، أي : نعم ، قالت : فأطال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدا حتى تجلاني الغشي ، وإلى جنبي قربة فيها ماء ، ففتحتها ، فجعلت أصب منها على رأسي ، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تجلت الشمس ، فخطب الناس ، وحمد الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، قالت : ولغط نسوة من الأنصار ، فانكفأت إليهن لأسكتهن فقلت لعائشة : ما قال ؟ قالت : قال : ما من شيء لم أكن أريته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ، وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال ، يؤتى أحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ; فأما المؤمن أو قال : الموقن - شك هشام - فيقول : هو رسول الله ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءنا بالبينات والهدى ، فآمنا وأجبنا واتبعنا وصدقنا ، فيقال له : نم صالحا ، قد كنا نعلم إن كنت لتؤمن به .

                                                                                                                                                                                  وأما المنافق أو قال المرتاب ، شك هشام ، فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلت . قال هشام : فلقد قالت لي فاطمة ، فأوعيته غير أنها ذكرت ما يغلظ عليه
                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة ، وهي قوله : " ثم قال أما بعد " .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) ، وهم خمسة : الأول : محمود بن غيلان ، أحد مشايخه مر في باب النوم قبل العشاء ، الثاني : أبو أسامة حماد بن أسامة الليثي ، وقد تكرر ذكره ، الثالث : هشام بن عروة بن الزبير بن العوام ، وقد تكرر ذكره ، الرابع : فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام امرأة هشام بن عروة ، الخامس : أسماء بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير وعروة أخت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في موضع ، وفيه القول في أربعة مواضع ، وفيه قال محمود ، ولم يقل حدثنا محمود أو أخبرنا ; لأن الظاهر أنه ذكره له محاورة ومذاكرة لا نقلا وتحميلا ، لكن كلام أبي نعيم في المستخرج يشعر بأنه قال : حدثنا محمود ، وفيه رواية الرجل عن بنت عمه ، وزوجته ، وفيه رواية التابعية عن الصحابية ، وفيه رواية الصحابية عن الصحابية ، وفيه شيخ البخاري مروزي ، وشيخه كوفي ، والبقية مدنية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري في مواضع قد بيناه في باب : من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس في كتاب العلم ، وقد ذكرنا أيضا من أخرجه غير البخاري ، وذكرنا جميع ما يتعلق به هناك ، ونذكر هاهنا مختصرا عما قد ذكرناه هناك ، وما لم نذكره .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ والناس يصلون " جملة حالية ، قوله : “ ما شأن الناس " أي : قائمين فزعين ، قوله : “ فأشارت “ أي عائشة ، قوله : “ فقلت : آية ؟ " أصله بهمزة الاستفهام ، أي : آية ، وارتفاعها على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : أهي آية ، أي : [ ص: 223 ] علامة لعذاب الناس كأنها مقدمة له ، قوله : “ حتى تجلاني " بفتح التاء المثناة من فوق والجيم ، وتشديد اللام ، وأصله تجللني ، أي : علاني ، وكذا وقع في رواية هناك ، قوله : “ الغشي " بفتح الغين المعجمة وسكون الشين المعجمة ، وفي آخره ياء آخر الحروف مخففة من غشي عليه غشية ، وغشيا ، وغشيانا فهو مغشي عليه ، واستغشى بثوبه ، وتغشى ، أي : تغطى به ، قوله : “ وقد تجلت الشمس " جملة حالية ، أي : انكشفت ، قوله : “ ثم قال أما بعد " هذا لم يذكر هناك ، قال الكرماني : كلمة " أما " لا بد لها من أخت فما هي إذا وقعت بعد الثناء على الله ، كما هو العادة في ديباجة الرسائل والكتب بأن يقال الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ، وأجاب بأن الثناء أو الحمد مقدم عليه ، كأنه قال : أما الثناء على الله فكذا ، وأما بعد فكذا ، ولا يلزم في قسيمه أن يصرح بلفظه ; بل يكفي ما يقوم مقامه ، قيل : هي من أفصح الكلام ، وهو فصل بين الثناء على الله وبين الخبر الذي يريد الخطيب إعلام الناس به ، ومثل هذه الكلمة تسمى بفصل الخطاب الذي أوتي داود عليه الصلاة والسلام ; لأنه فصل ما تقدم .

                                                                                                                                                                                  وقال الحسن : هي فصل القضاء ، وهي البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، قوله : “ لغط نسوة من الأنصار " اللغط بالتحريك الأصوات المختلفة التي لا تفهم ، قال ابن التين : ضبطه بعضهم بفتح الغين ، وبعضهم بكسرها ، وهو عند أهل اللغة بالفتح ، قوله : “ فانكفأت " أي : ملت بوجهي ورجعت إليهن لأسكتهن ، وأصله من كفأت الإناء إذا أملته وكببته ، قوله : “ ما من شيء " كلمة ما للنفي ، وكلمة من زائدة لتأكيد النفي ، وشيء اسم ما ، وقوله : “ لم أكن أريته " جملة في محل الرفع ; لأنها صفة لشيء ، وهو مرفوع في الأصل ، وإن كان جر بمن الزائدة ، واسم أكن مستتر فيه ، وأريته بضم الهمزة جملة في محل النصب ; لأنها خبر لم أكن ، قوله : “ إلا وقد رأيته " استثناء مفرغ ، وتحقيق الكلام قد ذكرناه ، قوله : “ حتى الجنة والنار " يجوز فيهما الرفع على أن تكون حتى ابتدائية ، ورفع الجنة على الابتداء محذوف الخبر ، تقديره : حتى الجنة مرئية ، والنار عطف عليها ، ويجوز فيهما النصب على أن تكون حتى عاطفة على الضمير المنصوب في رأيته ، ويجوز الجر أيضا على أن تكون حتى جارة .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ أوحي إلي " على صيغة المجهول ، قوله : “ أنكم " بفتح الهمزة ، قوله : “ مثل أو قريبا " أصله مثل فتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال ، وتحقيقه قد مر ، قوله : “ يؤتى " على صيغة المجهول ، قوله : “ الموقن " أي : المصدق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو الموقن بنبوته ، قوله : “ صالحا " أي : منتفعا بأعمالك ، قوله : “ إن كنت " إن هذه مخففة من الثقيلة ، أي : إن الشأن كنت ، وهي مكسورة ، ودخلت اللام في قوله : " لموقنا " لتفرق بين إن هذه وبين إن النافية ، قوله : “ المنافق " هو المظهر خلاف ما يبطن ، والمرتاب الشاك ، وهو في مقابلة الموقن ، وهذا اللفظ مشترك فيه الفاعل والمفعول ، والفرق تقديري ، قوله : “ فأوعيته " الأصل في مثل هذا أن يقال : وعيته . يقال : وعيت العلم ، وأوعيت المتاع .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير : في حديث الإسراء ذكر في كل سماء أنبياء قد سماهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية هكذا روي ، فإن صح فيكون معناه أدخلته في وعاء قلبي يقال : أوعيت الشيء في الوعاء ، إذا أدخلته فيه ، ولو روي وعيت بمعنى حفظت لكان أبين وأظهر . يقال : وعيت الحديث أعيه وعيا فأنا واع إذا حفظته وفهمته ، وفلان أوعى من فلان ، أي : أحفظ وأفهم ، وهاهنا كذلك إن صحت الرواية فيكون معناه أدخلته في وعاء قلبي ، وإلا فالقياس : وعيته بدون الهمزة فافهم ، وفي بعض النسخ : فوعيته على الأصل ، قوله : “ ما يغلظ عليه " ويروى " ما يغلظ فيه " .

                                                                                                                                                                                  ( وما يستفاد منه ) الافتتان في القبر ، وهو الاختبار ، ولا فتنة أعظم من هذه الفتنة ، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة منها : حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قبر الميت - أو قال : أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر ، وللآخر النكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول ، هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك .

                                                                                                                                                                                  فإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون فقلت مثله ، لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك
                                                                                                                                                                                  . انفرد بإخراجه الترمذي من هذا الوجه ، وله طريق آخر من رواية [ ص: 224 ] سعيد بن يسار عن أبي هريرة ، أخرجه ابن ماجه عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوب ، ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام ، فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند الله ، فصدقناه ، فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : ما ينبغي لأحد أن يرى الله ، فتفرج له فرجة قبل النار ، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا ، فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة ، فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : هذا مقعدك ، ويقال له : على اليقين كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                  ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوبا ، فيقال له : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولا فقلته ، فيفرج له قبل الجنة ، فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك ، ثم يفرج له فرجة إلى النار ، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا ، فيقال له : هذا مقعدك ، على الشك كنت ، وعليه مت ، وعليه تبعث إن شاء الله
                                                                                                                                                                                  " ، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى في التفسير ، وفي الملائكة من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أبو داود من حديث أنس ، وفيه قال : " إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك ، فيقول له : ما كنت تعبد ؟ فإن الله إذا هداه قال : كنت أعبد الله ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : هو عبد الله ورسوله ، وما يسأل عن شيء غيرها ، فينطلق به إلى بيت كان له في النار ، فيقال له : هذا بيتك كان في النار ، ولكن الله عصمك ورحمك ، فأبدلك به بيتا في الجنة ، فيقول : دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي ، فيقال له : اسكن .

                                                                                                                                                                                  وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فيهزه فيقول له : ما كنت تعبد ؟ فيقول : لا أدري ، فيقول له : لا دريت ولا تليت ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : كنت أقول ما يقول الناس ، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين
                                                                                                                                                                                  " .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود أيضا من حديث البراء على اختلاف طرقه ، وفيه : " ثم يقيض له أعمى أبكم ، معه مرزبة من حديد ، لو ضرب بها جبل لصار ترابا قال : فيضرب بها ضربة يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح " .

                                                                                                                                                                                  وأخرج أبو داود الطيالسي حديث البراء بن عازب : " يقول العبد : هو رسول الله " الحديث ، وفيه : " يمثل له عمله في هيئة رجل حسن الوجه ، طيب الريح ، حسن الثياب ، فيقول : أبشر بما أعد الله لك ، أبشر برضوان الله تعالى وجنات فيها نعيم مقيم ، فيقول : بشرك الله بخير ، من أنت ، فوجهك الذي جاء بالخير ، فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد ، أنا عملك الصالح " .

                                                                                                                                                                                  وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعا : " فيأتيه الملكان أعينهما مثل قدور النحاس " ، وفي رواية معمر " أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، معهما مرزبة من حديد ، لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها " .

                                                                                                                                                                                  وعند الحكيم الترمذي : " خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ، ولا خلق الملائكة ، ولا خلق الطير ، ولا خلق البهائم ، ولا خلق الهوام ; بل هما خلق بديع " الحديث .

                                                                                                                                                                                  وروى أبو نعيم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل " الحديث ، وفيه " فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ، ثم يرتفع ملك الموت ، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه " ، وذكر بقية الحديث .

                                                                                                                                                                                  وقد روي في عذاب القبر عن جماعة من الصحابة ، وهم أبو هريرة عند الترمذي والبخاري ، وزيد بن ثابت عند مسلم ، وابن عباس عند الستة ، وأبو أيوب عند الشيخين والنسائي ، وأنس عند الشيخين وأبو داود والنسائي ، وجابر عند ابن ماجه ، وعائشة عند الشيخين والنسائي ، وأبو سعيد عند ابن مردويه في تفسيره ، وابن عمر عند النسائي ، وعمر بن الخطاب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه ، وسعد عند البخاري والترمذي والنسائي ، وابن مسعود عند الطحاوي ، وزيد بن أرقم عند مسلم ، وأبو بكرة عند النسائي ، وعبد الرحمن بن حسنة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه ، وعبد الله بن عمرو عند النسائي ، وأسماء بنت أبي بكر عند البخاري والنسائي ، وأسماء بنت يزيد عند النسائي ، وأم مبشر عند ابن أبي شيبة في المصنف ، وأم خالد عند البخاري والنسائي .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية