الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فرحين بما آتاهم الله من فضله أي مسرورين بما أعطاهم الله من فضله أي زيادة على ذلك الرزق الذي استحقوه بعملهم ، فالفضل ما كان في غير مقابلة عمل ، كما قال : ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور [ 35 : 30 ] . ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الاستبشار : السرور الحاصل بالبشارة ، وأصل الاستفعال طلب الفعل ، فالمستبشرون بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة كذا قالوا ، والعبارة للرازي ويصح أن يكون معنى الطلب فيه على حاله ، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا في الدنيا [ ص: 193 ] قال الأستاذ الإمام : إنما قال " من خلفهم " للدلالة على أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم ، فهو قيد فيه الخبر والحث والترغيب والمدح والبشارة وهو من البلاغة بالمكان الذي لا يطاول ، والمعنى على الأول : ويطلبون البشرى بالذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم أي يتوقعون أن يبشروا في وقت قريب بقدومهم عليهم مقتولين في سبيل الله كما قتلوا ، مستحقين من الرزق والفضل الإلهي مثل ما أوتوا ، والمعنى على الثاني : أنهم يسرون بذلك عند حصوله .

                          هذا ما روي في وجه الاستبشار عن ابن جريج وقتادة وروي عن السدي أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيسر ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه عليهم في الدنيا . واختار أبو مسلم والزجاج أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : هم إخوانهم الذين لا يحصلون فضيلة الشهادة فلا ينالون مثل درجتهم ، وأن استبشارهم بهم يكون عند دخولهم الجنة بعد القيامة قبلهم فيرون منازلهم فيها ويعلمون أنهم من أهلها وإن فاتتهم درجة الشهادة ، ولا سيما إذا كان المراد بالذين من خلفهم من جاهد مثلهم ولم يقتل فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما [ 4 : 95 ، 96 ] والآية الآتية تؤيد كون المراد بمن خلفهم بقية المجاهدين الذين لم يقتلوا .

                          وقوله : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم أي يستبشرون بهم من حيث إنه لا خوف عليهم ، فالخوف والحزن على هذا منفيان عن الذين لم يلحقوا بهم . أو الباء للسببية والمعنى بسبب أنه لا خوف عليهم إلخ . وحينئذ يحتمل أن يكونا منفيين عنهم أنفسهم ، أي إن الفرح والاستبشار يكونان شاملين لهم بحالهم وبحال من خلفهم من إخوانهم بسبب انتفاء الخوف والحزن عنهم وهم حيث هم . كما يحتمل أن يكون المراد نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم أيضا ، والمختار عندي أن المراد بنفي الخوف والحزن نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم ممن قاتل معهم ولم يقتل ، وأن الآية الآتية مفسرة لذلك . والخوف : تألم من مكروه يتوقع ، والحزن : تألم من مكروه وقع ، وتقدم تفسير هذا التركيب في الجزء الأول راجع تفسير إن الذين آمنوا والذين هادوا [ 2 : 62 ] وقد قيل إن المراد بالخوف والحزن : ما يكون في الدنيا ، وقيل : بل المراد ما يكون في الآخرة . ويجوز أن يكون المعنى أنه لا خوف عليهم في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ثانية ولا هم يحزنون في المستقبل البعيد عندما يقدمون على ربهم في الآخرة ، فاعرض هذا على الآيات الآتية إلى قوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . يستبشرون بنعمة من الله ضمير يستبشرون إما للشهداء وإما للذين لم يلحقوا بهم ، [ ص: 194 ] فإن كان للشهداء فهو عما يتجدد لهم من نعمة وفضل ، أو المراد بقوله بنعمة ما ذكره في الآية السابقة من كونهم أحياء عنده يرزقون وفضل هو عين ما ذكره في الآية السابقة من كونهم فرحين بما آتاهم الله من فضله وإن كان للذين لم يلحقوا بهم فالمعنى أنهم يستبشرون بمثل ما فرح به الشهداء وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين وقرأ الكسائي " وإن " بكسر الهمزة على أنه تذييل ، أو معترض لتأييد معنى ما قبله ، والمؤمنون هنا عام أريد به خصوص الذين وصفهم بقوله : الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح وهم إخوان أولئك الشهداء الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فدعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع أبي سفيان في حمراء الأسد فاستجابوا لله وله من بعد ما أصابهم القرح في أحد حتى أنهك قواهم وتقدم بيان ذلك مفصلا في أول السياق ( راجع غزوة حمراء الأسد ص 88 ج 4 ط . الهيئة المصرية العامة للكتاب ) وقيل : هو على عمومه ، وقيل : إن المراد به الشهداء والجملة على هذين القولين ابتدائية ومدحية .

                          وقال الأستاذ الإمام : ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل . فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان : فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم ، وفضل عليهم في أنفسهم وهو نعمة الله عليهم ، وفضله الخاص بهم في دار الكرامة ، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار ، ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به ، وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو اهـ . ليس عندي في ذلك عنه غير هذا .

                          وقوله : للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم جملة ابتدائية على الوجه الأول ، وخبرية على الوجهين الآخرين مما تقدم . وقد يقال : إن أولئك الذين استجابوا لله ولرسوله في تلك الحالة هم خيار المؤمنين ، وكلهم من المحسنين المتقين ، فما معنى قوله " منهم " ؟ وأجابوا عن ذلك بأن " من " هنا للتبيين لا للتبعيض ، وأن الوصف بالإحسان والتقوى للمدح والتعليل لا للتقييد ، واختار الأستاذ الإمام قول من قال إن " من " للتبعيض وقال هي في محلها ; لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج معه - صلى الله عليه وسلم - إلى " حمراء الأسد " أي وهم من الذين لا يضيع الله أجرهم ، ولكنهم لا يستحقون الأجر العظيم الذي استحقه الذين خرجوا معه وهم مثقلون بالجراح ومرهقون من الإعياء إلى استئناف قتال أضعافهم من الأقوياء .

                          أقول : فالضمير في قوله " منهم " راجع على هذا القول للمؤمنين لا للذين استجابوا ، [ ص: 195 ] وهو لا يظهر إلا إذا جعلنا قوله : الذين استجابوا منصوبا على المدح ، والجملة المدحية معترضة - قال الأستاذ : وثم وجه آخر وهو أنه وجد في نفوس بعض المؤمنين بعد أحد شيء من الضعف ، فهذه الآيات كلها تأديب لهم ، ولما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - للخروج لبوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا ، ولكن عرض لبعضهم عند الخروج بالفعل موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا ، فأراد من الذين أحسنوا واتقوا : الذين خرجوا بالفعل وهم بعض الذين استجابوا . والإحسان : أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة . والتقوى أن يتقي الإساءة والتقصير فيه .

                          أقول : وهذا الوجه أظهر الوجوه وأحسنها .

                          ومما أشار إليه الأستاذ ما رواه ابن إسحاق أنه لما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلب العدو " وألا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس " كلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال " يا رسول الله إن أبى كان خلفني على أخوات لي سبع وقال : يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي فتخلف على أخواتك . فتخلف عليهن ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " . فليعتبر المسلمون بهذه الآيات التي وردت في أولئك الأبرار الأخيار الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وكيف جاء وعدهم بالأجر مقرونا بوصف الإحسان والتقوى ، وأنى يعتبر المغرورون المسيئون الذين هم عن صلاتهم ساهون والذين هم للزكاة مانعون ، والذين يبخلون بأنفسهم فلا يبذلونها في سبيل الحق ولا يتعبون ، والذين يقولون الكذب وهم يعملون ، والذين يتولون المبطلين وينصرون ، ويشاقون أهل الحق ويخذلون ، ويحسبون أنهم على شيء ! ألا إنهم هم الكاذبون ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية