الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  75 17 حدثنا أبو معمر قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم علمه الكتاب .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة بل هو عين الترجمة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله وهم خمسة : الأول : أبو معمر بفتح الميمين عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة البصري المقعد بضم الميم وفتح العين المنقري الحافظ الحجة ، سمع عبد الوارث والدراوردي وغيرهما ، روى عنه أبو حاتم الرازي والبخاري ، وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن رجل عنه ، قال يحيى بن معين : هو ثقة عاقل ، وفي رواية : ثبت ، وكان يقول بالقدر ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري أبو عبيدة البصري روى عن أيوب السختياني وغيره ، قال ابن سعد : كان ثقة حجة ، توفي بالبصرة في المحرم سنة ثمانين ومائة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : خالد بن مهران الحذاء أبو المنازل بضم الميم ، كذا ذكره أبو الحسن ، وقال عبد الغني : ما كان من منازل فهو بضم الميم إلا يوسف بن منازل فإنه بفتح الميم ، قال الباجي : قرأت على الشيخ أبي ذر - يعني الهروي - في كتاب الأسماء والكنى لمسلم خالد بن مهران أبو المنازل بفتح الميم ، وكذا ذكره في سائر الباب والضم أظهر ، وقال محمد بن سعد : هو مولى لأبي عبد الله عامر بن كريز القرشي ، ولم يكن بحذاء إنما كان يجلس إليهم ، يقال إنه ما حذا نعلا قط ، وإنما كان يجلس إلى صديق له حذاء ، وقيل : إنه كان يقول أخذوا علي هذا النحو فلقب به ، تابعي رأى أنس بن مالك ، قال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال يحيى وأحمد : ثقة ، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عكرمة مولى عبد الله بن عباس أبو عبد الله المدني ، أصله من البربر من أهل المغرب ، سمع مولاه وعبد الله بن عمر وخلقا من الصحابة ، وكان من العلماء في زمانه بالعلم والقرآن ، وعنه أيوب وخالد الحذاء وخلق ، وتكلم فيه برأيه رأي الخوارج ، وأطلق نافع وغيره عليه الكذب ، وروى له مسلم مقرونا بطاوس وسعيد بن جبير ، واعتمده البخاري في أكثر ما يصح عنه من الروايات ، وربما عيب عليه إخراج حديثه ، ومات ابن عباس وعكرمة مملوك ، فباعه علي ابنه من خالد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ، فقال له عكرمة : بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار ! فاستقاله ، فأقاله وأعتقه ، وكان جوالا في البلاد ، ومات بالمدينة سنة خمس أو ست أو سبع ومائة ، ومات معه في ذلك اليوم كثير الشاعر ، فقيل : مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس ، وقيل : مات عكرمة سنة خمس عشرة ومائة وقد بلغ ثمانين ، واجتمع حفاظ ابن عباس على عكرمة ، فيهم عطاء وطاوس [ ص: 66 ] وسعيد بن جبير ، فجعلوا يسألون عكرمة عن حديث ابن عباس ، فجعل يحدثهم ، وسعيد كلما حدث بحديث وضع أصبعه الإبهام على السبابة ، أي سوى حتى سألوه عن الحوت وقصة موسى ، فقال عكرمة : كان يسايرهما في ضحضاح من الماء ، فقال سعيد : أشهد على ابن عباس أنه قال : يحملانه في مكتل - يعني الزنبيل - قال أيوب : ورأيي والله أعلم أن ابن عباس حدث بالخبرين جميعا .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبد الله بن عباس .

                                                                                                                                                                                  بيان الأنساب : المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف بعدها راء نسبة إلى منقر بن عبيد بن الحارث ، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعيد بن زيد مناة بن تميم ، قال ابن دريد : من نقرت عن الأمر كشفت عنه .

                                                                                                                                                                                  التميمي في مضر ينسب إلى تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس .

                                                                                                                                                                                  العنبري بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة بعدها راء في تميم ينسب إلى العنبر بن عمرو بن تميم .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث والعنعنة . ومنها أن رواته بصريون خلا عكرمة وابن عباس ، وهما أيضا سكنا البصرة مدة ، ومنها أن إسناده على شرط الأئمة الستة ، قاله بعض الشارحين وفيه نظر ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه هنا عن أبي معمر ، وأخرجه أيضا في فضائل الصحابة عن أبي معمر ، ومسدد عن عبد الوارث ، وعن موسى عن وهيب كلاهما عن خالد ، قال أبو مسعود الدمشقي : هو عند القواريري عن عبد الوارث ، وأخرجه أيضا في الطهارة عن عبد الله بن محمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، وأخرجه مسلم في فضائل ابن عباس : حدثنا زهير وأبو بكر بن أبي النصر ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا ورقاء عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأخرجه الترمذي في المناقب عن محمد بن بشار عن الثقفي عن عبد الوارث به ، وقال : حسن صحيح ، وأخرجه النسائي فيه عن عمر بن موسى عن عبد الوارث به ، وأخرجه ابن ماجه في السنة عن محمد بن المثنى وأبي بكر بن خلاد كلاهما عن الثقفي به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " ضمني " من ضم يضم ضما وضممت الشيء إلى الشيء فانضم إليه ، وهو من باب نصر ينصر ، قوله " اللهم " أصله يا الله ، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم ، ولذلك لا يجتمعان ، وأما قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                  وما عليك أن تقول كلما سبحت أو صليت يا اللهما اردد علينا شيخنا مسلما

                                                                                                                                                                                  فليس يثبت ، وهذا من خصائص اسم الله تعالى كما اختص بالباء في القسم وبقطع همزته في يا ألله وبغير ذلك ، وكأنهم لما أرادوا أن يكون نداؤه باسمه متميزا عن نداء عباده بأسمائهم من أول الأمر حذفوا حرف النداء من الأول وزادوا الميم لقربها من حروف العلة كالنون في الآخر ، وخصت لأن النون كانت ملتبسة بضمير النساء صورة وشددت لأنها خلف من حرفين ، واختار سيبويه أن لا توصف لأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما ، ومذهب الكوفيين أن أصله يا الله أم أي اقصد بخير فتصرف فيه ، ورجح الأكثرون قول البصريين ، ورجح الإمام فخر الدين الرازي قول الكوفيين من وجوه ، وكأن الأصل أن يا الذي هو حرف النداء لا يدخل على ما فيه الألف واللام إلا بواسطة كقوله تعالى : يا أيها المزمل وشبهه ، وإنما أدخلوها هنا لخصوصية هذا الاسم الشريف بالله تعالى ، واللام فيه لازمة غير مفارقة لأنها عوض عما حذف منه وهي الهمزة .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " ضمني " فعل ومفعول ، و " رسول الله " فاعله ، والجملة مقول القول ، قوله " وقال " عطف على " ضمني " قوله " اللهم علمه الكتاب " مقول القول ، والهاء في علمه مفعول أول لعلم و " الكتاب " مفعول ثان ، فإن قلت هذا الباب ، أعني التعليم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ، ومفعوله الأول كمفعول أعطيت والثاني والثالث كمفعولي علمت ، يعني لا يجوز حذف الثاني أو الثالث فقط فكيف ها هنا ، قلت : علمه بمعنى عرفه فلا يقتضي إلا مفعولين .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " ضمني " فيه حذف تقديره ضمني إلى نفسه أو إلى صدره ، وقد جاء بذلك مصرحا في روايته الأخرى عن مسدد عن عبد الوارث " إلى صدره " ، قوله " الكتاب " أي القرآن لأن الجنس المطلق محمول على الكامل ، ولأن العرف الشرعي عليه ، أو لأن اللام للعهد ، فإن قلت : المراد نفس القرآن أي لفظه أو معانيه أي أحكام الدين ، قلت : اللفظ باعتبار دلالته على معانيه ، ووقع في رواية مسدد " الحكمة " بدل " الكتاب " وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في الطرق كلها عن خالد الحذاء ، وفيه نظر لأن البخاري أخرجه أيضا من حديث وهيب عن خالد بلفظ الكتاب [ ص: 67 ] أيضا فيحمل على أن المراد بالحكمة أيضا القرآن فيكون بعضهم رواه بالمعنى ، وقال جماعة من الصحابة والتابعين في قوله تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة الآية ، إن الحكمة القرآن ، فإن قلت : روى الترمذي والنسائي من طريق عطاء عن ابن عباس ، قال : دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتى الحكمة مرتين ، قلت : يحتمل تعدد الواقعة فيكون المراد بالكتاب : القرآن ، وبالحكمة : السنة ، وقد فسرت الحكمة بالسنة في قوله تعالى : ويعلمهم الكتاب والحكمة قالوا : المراد بالحكمة هنا السنة التي سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام بوحي من الله تعالى ، ويؤيد ذلك رواية عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما التي أخرجها الشيخان بلفظ " اللهم فقهه " وزاد البخاري في رواية " في الدين " وذكر الحميدي في الجمع : أن أبا مسعود ذكر في أطراف الصحيحين بلفظ " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " قال الحميدي : هذه الزيادة ليست في الصحيحين ، وهي في رواية سعيد بن جبير عند أحمد وابن حبان ، ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء بلفظ " اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب " وهذه الرواية غريبة من هذا الوجه ، وقد رواها الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها ، وروى ابن سعد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال : " دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي ، وقال : اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب " وقد رواه أحمد عن هشيم عن خالد في حديث الباب بلفظ " مسح على رأسي " فإن قلت : ما معنى تسمية الكتاب والسنة بالحكمة ، قلت : أما الكتاب فلأن الله تعالى أحكم فيه لعباده حلاله وحرامه وأمره ونهيه ، وأما السنة فحكمة فصل بها بين الحق والباطل وبين بها مجمل القرآن ، وقال الكرماني : فإن قلت هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : لكل نبي دعوة مستجابة ، وإجابة الباقي في مشيئة الله تعالى ، وأما هذا الدعاء فمما لا شك في قبوله لأنه كان عالما بالكتاب ، حبر الأمة ، بحر العلم ، رئيس المفسرين ، ترجمان القرآن ، وكونه في الدرجة القصوى في المحل الأعلى منه مما لا يخفى ، وقال ابن بطال : كان ابن عباس من الأحبار الراسخين في علم القرآن والسنة ، أجيبت فيه الدعوة ، إلى هنا كلام الكرماني ، قلت : هذا السؤال لا يعجبني فإن فيه بشاعة ، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة ، وقوله " لكل نبي دعوة مستجابة " لا ينفي ذلك ; لأنه ليس بمحصور ، فإن قلت : ما كان سبب هذا الدعاء لابن عباس ، قلت : بين ذلك البخاري ومسلم في الرواية الأخرى عن ابن عباس ، قال : " دخل النبي عليه الصلاة والسلام الخلاء ، فوضعت له وضوءا " زاد مسلم " فلما خرج " ثم اتفقا ، قال : " من وضع هذا ؟ فأخبر " ولمسلم " قالوا ابن عباس " وفي رواية أحمد وابن حبان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة هي التي أخبرته بذلك ، وأن ذلك كان في بيتها ليلا ، قلت : ولعل ذلك في الليلة التي بات فيها ابن عباس عندها ليرى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول : فيه بركة دعائه عليه الصلاة والسلام وإجابته ، الثاني : فيه فضل العلم والحض على تعلمه وعلى حفظ القرآن والدعاء بذلك ، الثالث : فيه استحباب الضم وهو إجماع للطفل والقادم من سفر ، ولغيرهما مكروه عند البغوي ، والمختار جوازه ، ومحل ذلك إذا لم يؤد إلى تحريك شهوة ، هذا مذهب الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة أن ذلك يجوز إذا كان عليه قميص ، وقال الإمام أبو منصور الماتريدي : المكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة ، وأما على وجه البر والكرامة فجائز .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية