الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  64 6 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال : حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلا وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى ، فلما قرأه مزقه ، فحسبت أن ابن المسيب قال : فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث لجزئي الترجمة ظاهرة ; أما للجزء الأول فمن حيث إن النبي عليه الصلاة والسلام ناول الكتاب لرسوله وأمر أن يخبر عظيم البحرين أن هذا الكتاب كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه ، وأما للجزء الثاني فمن حيث إنه عليه الصلاة والسلام كتب كتابا وبعثه إلى عظيم البحرين ليبعثه إلى كسرى ، ولا شك أنه كتاب من سيدي ذوي العلوم إلى بعض البلدان .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم ستة ; الأول : إسماعيل بن عبد الله ، وهو ابن أبي أويس المدني .

                                                                                                                                                                                  الثاني : إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف .

                                                                                                                                                                                  الثالث : صالح بن كيسان الغفاري المدني .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبيد الله بن عبد الله - بتصغير الابن وتكبير الأب - أحد الفقهاء السبعة .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبد الله بن عباس .

                                                                                                                                                                                  والكل قد مر ذكرهم .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والإخبار ، ومنها أن رواته كلهم مدنيون ، ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح ، وفي خبر الواحد عن يحيى بن بكير عن ليث عن يونس ، وفي الجهاد عن عبد الله بن يوسف عن الليث عن عقيل - ثلاثتهم عن الزهري به . وأخرجه النسائي أيضا في السير عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب عن يونس ، وفي العلم عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قاضي دمشق عن سليمان ابن داود الهاشمي عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان وابن أخي الزهري - كلاهما عن الزهري به .

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " بكتابه رجلا " ; أي بعث رجلا ملتبسا بكتابه مصاحبا له ، وانتصاب " رجلا " على المفعولية .

                                                                                                                                                                                  قوله [ ص: 28 ] " وأمره " عطف على " بعث " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أن يدفعه " ; أي بأن يدفعه ، وأن مصدرية ، أي بدفعه .

                                                                                                                                                                                  قوله " فدفعه " معطوف على مقدر ; أي فذهب إلى عظيم البحرين فدفعه إليه ، ثم بعثه العظيم إلى كسرى فدفعه إليه - ومثل هذه الفاء تسمى فاء الفصيحة .

                                                                                                                                                                                  قوله " مزقه " جواب " لما " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أن ابن المسيب " في محل النصب على أنه أحد مفعولي " حسبت " .

                                                                                                                                                                                  قوله " قال " جملة في محل النصب على أنها مفعول ثان لحسبت .

                                                                                                                                                                                  قوله " فدعا " معطوف على محذوف تقديره لما مزقه وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك غضب فدعا ، والمحذوف هو مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله " أن يمزقوا " ; أي بأن يمزقوا ، وأن مصدرية - أي بالتمزيق .

                                                                                                                                                                                  قوله " كل ممزق " كلام إضافي منصوب على النيابة عن المصدر ، كما في قوله :


                                                                                                                                                                                  يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

                                                                                                                                                                                  والممزق - بفتح الزاي - مصدر على وزن اسم المفعول بمعنى التمزيق .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " رجلا " هو عبد الله بن حذافة السهمي ، وقد سماه البخاري في المغازي ، وحذافة - بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة وبعد الألف فاء - ابن قيس بن عدي بن سعد - بفتح السين وسكون العين - ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ، أخو خنيس بن حذافة زوج حفصة ، أصابته جراحة بأحد فمات منها وخلف عليها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله هو الذي قال : يا رسول الله ، من أبي ؟ قال : أبوك حذافة . أسلم قديما ، وكان من المهاجرين الأولين ، وكانت فيه دعابة . وقيل إنه شهد بدرا ، ولم يذكره الزهري ولا موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين ، وأسره الروم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فأرادوه على الكفر ، وله في ذلك قصة طويلة وآخرها أنه قال له ملكهم : قبل رأسي أطلقك ! قال : لا . قال له : وأطلق من معك من أسرى المسلمين ! فقبل رأسه فأطلق معه ثمانين أسيرا من المسلمين ، فكان الصحابة يقولون له : قبلت رأس علج ! فيقول : أطلق الله بتلك القبلة ثمانين أسيرا من المسلمين ! توفي عبد الله في خلافة عثمان رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله " عظيم البحرين " ، هو المنذر بن ساوى - بالسين المهملة وفتح الواو ، والبحرين بلد بين البصرة وعمان ; هكذا يقال بالياء ، وفي العباب قال الحذاق : يقال هذه البحران ، وانتهينا إلى البحرين . وقال الأزهري : إنما ثنوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر ، بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ . قال : وقدرت البحيرة بثلاثة أميال في مثلها ، ولا يغيض ماؤها ; راكد زعاق ، والنسبة إلى البحرين بحراني . وقال أبو محمد اليزيدي : سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى حصنين لم قالوا بحراني وحصني ؟ فقال الكسائي : كرهوا أن يقولوا حصناني لاجتماع النونين - وقلت : إنما كرهوا أن يقولوا بحري فيشبه النسبة إلى البحر ! قلت : قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، وبعث أبا عبيدة فأتى بجزيتها ، وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين فصدق وأسلم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : لم لم يقل إلى ملك البحرين وقال عظيم البحرين ؟ قلت : لأنه لا ملك ولا سلطنة للكفار ; إذ الكل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن ولاه .

                                                                                                                                                                                  قوله " إلى كسرى " بفتح الكاف وكسرها ، وقال ابن الجواليقي : الكسر أفصح ، وهو فارسي معرب خسرو . وقال الجوهري : وجمعه أكاسرة على غير قياس ; لأن قياسه كسرون بفتح الراء ، وقد ذكرنا في قصة هرقل أن كسرى لقب لكل من ملك الفرس كما أن قيصر لقب لكل من ملك الروم ، والذي مزق الكتاب من الأكاسرة هو برويز بن هرمز بن أنوشروان ، ولما مزق الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مزق ملكه . وقال صلى الله عليه وسلم : إذا مات كسرى فلا كسرى بعده . قال الواقدي : فسلط على كسرى ابنه شرويه وقتله سنة سبع ، فتمزق ملكه كل ممزق وزال من جميع الأرض ، واضمحل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أنوشروان هو الذي ملك النعمان بن المنذر على العرب ، وهو الذي قصده سيف بن ذي يزن يستنصره على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده فنفوا السودان ، وكان ملكه سبعا وأربعين سنة وسبعة أشهر . وقال ابن سعد : لما مزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى باذان عامله في اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتياني بخبره ! فبعث باذان قهرمانه ورجلا آخر وكتب معهما كتابا ، فقدما المدينة فدفعا كتاب باذان إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام ، وفرائصهما ترعد ، وقال لهما : أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه كسرى في هذه الليلة لسبع ساعات مضت منها ! وهي ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع ، وأن الله سلط عليه ابنه شرويه فقتله . وقال ابن هشام : لما مات وهرز الذي كان باليمن على جيش الفرس أمر كسرى ابنه - يعني ابن وهرز - ثم عزله وولى باذان ، فلم يزل عليها حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فبلغني عن الزهري أنه قال : كتب كسرى إلى [ ص: 29 ] باذان : إنه بلغني أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي ، فسر إليه فاستتبه ; فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه ! فبعث باذان بكتابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله وعدني بقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ! فلما أتى باذان الكتاب قال : إن كان نبيا سيكون ما قال ! فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الزهري : فلما بلغ باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس .

                                                                                                                                                                                  قوله " فحسبت " ، القائل هو ابن شهاب الزهري راوي الحديث ; أي قال الزهري ظننت أن سعيد بن المسيب قال ... إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام ; الأول : فيه جواز الكتابة بالعلم إلى البلدان .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه جواز الدعاء على الكفار إذا أساءوا الأدب وأهانوا الدين .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أن الرجل الواحد يجزئ في حمل كتاب الحاكم إلى الحاكم ، وليس من شرطه أن يحمله شاهدان كما تصنع القضاة اليوم - قاله ابن بطال ، قلت : إنما حملوا على شاهدين لما دخل على الناس من الفساد ، فاحتيط لتحصين الدماء والفروج والأموال بشاهدين .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية