الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4345 (23) باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية

                                                                                              [ 2265 ] عن عائشة قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك، فقام خطيبا، فقال: " ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية".

                                                                                              رواه مسلم (2356) (127).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (23) ومن باب كون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وأشدهم له خشية

                                                                                              إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله، لما خصه الله تعالى به في أصل الخلقة من كمال الفطنة، وجودة القريحة، وسداد النظر، وسرعة الإدراك، ولما رفع الله عنه من موانع الإدراك، وقواطع النظر قبل تمامه، ومن اجتمعت له هذه الأمور سهل عليه الوصول إلى العلوم النظرية، وصارت في حقه كالضرورية، ثم إن الله تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه، وأحوال العالم كله على ما لم يطلع عليه غيره، وهذا كله معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس لزم أن يكون أخشى الناس لله تعالى؛ لأن الخشية منبعثة عن العلم، وبحسبه، كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28] وقد أشار بعض المتصوفة إلى أن علوم الأنبياء ضرورية، وسماها: كشفا، وهذا كلام فيه إجمال، ويحتاج إلى استفصال، فيقال لقائله: إن أردت بكونها ضرورية أنها حاصلة في أصل فطرتهم، وأنهم جبلوا عليها، بحيث [ ص: 151 ] لم يستعملوا في شيء منها أفكارهم، ولا حدقوا نحوها بصائرهم، ولا أنظارهم، فهو قول باطل، لما يعلم قطعا أنهم مكلفون بمعرفة الله، ومعرفة صفاته وأحكامه، ومأمورون بها، والضروري لا يكلف به؛ لأنه حاصل، والحاصل لا يطلب، ولا يبتغى، ولأن الإنسان لا يتمكن من ترك ما جبل عليه، ولا من فعله، وما كان كذلك لم يقع في الشريعة التكليف به بالنص والإجماع. وإنما الخلاف في جوازه عقلا، وإن أراد به أن تلك العلوم تصير في حقهم ضرورية بعد تحصيلها بالطرق النظرية، والقيام بالوظائف التكليفية، فتتوالى عليهم تلك العلوم، فلا يتأتى لهم التشكك فيها، ولا الانفكاك عنها، فنقول: ذلك صحيح في حق الأنبياء قطعا، وخصوصا في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المعلوم من حاله وحالهم صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وأما غيرهم فيجوز أن يكرم الله تعالى بعض أوليائه بشيء من نوع من ذلك، لكن على وجه الندور والقلة، وليس مطردا في كل الأولياء، ومن فتح له بشيء من ذلك في بعض الأوقات وبعض المعلومات، ويكون ذلك خرقا للعادات، فإن سنة الله تعالى في العلوم النظرية: أنها لا تتوالى، ولا تدوم، ويمكن أن يتشكك فيما كان منها معلوما، هذه سنة الله الجارية، وحكمته الماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.

                                                                                              و ( قول عائشة رضي الله عنها: " صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا فترخص فيه ") أي: فعل أمرا ترك فيه التشديد لأنه رخص له فيه، كما قال في طريق آخر: " ما بال رجال يرغبون عما رخص لي فيه " ولعل هذا من عائشة رضي الله عنها إشارة لحديث النفر الذين استقلوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: وأنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أنكح النساء، فلما بلغ [ ص: 152 ] النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: " وأما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وقد تقدم في النكاح.

                                                                                              و (قوله: " ما بال رجال بلغهم عني أني ترخصت في أمر فكرهوه، وتنزهوا عنه ") هذا منه صلى الله عليه وسلم عدول عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب، وكانوا معينين عنده، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه، ولتلطفه في التأديب، ولستر المعاتب. وتنزه هؤلاء عما ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم غلط أوقعهم فيه ظن أن المغفور له يسامح في بعض الأمور، ويسقط عنه بعض التكاليف، والأمر بالعكس لوجهين:

                                                                                              أحدهما: أن المغفور له يتعين عليه وظيفة الشكر، كما قال صلى الله عليه وسلم: " أفلا أكون عبدا شكورا ".

                                                                                              وثانيهما: أن الأعلم بالله وبأحكامه: هو الأخشى له، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلمكم بالله تعالى، وأشدكم له خشية " وقال في موضع آخر: " وأعلمكم بما أتقي الله ".

                                                                                              ويستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين ، وعن الأخذ بالتشديد [ ص: 153 ] في جميع الأمور، فإن دين الله يسر، وهو: الحنيفية السمحة، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.

                                                                                              وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدد فيه التزمناه على شدته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سنته، ولا على منهاج شريعته.

                                                                                              وفيه حجة على القول بمشروعية الاقتداء به في جميع أفعاله، كما نقوله في جميع أحواله، إلا ما دل دليل على أنه من خصوصياته، وقد أوضحنا هذا في الأصول.




                                                                                              الخدمات العلمية