الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4371 [ 2282 ] وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله؛ قوله: إني سقيم [الصافات: 89]. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا [الأنبياء: 63]. وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي؛ فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها وقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا كف الله يد الفاجر وأخدم خادما، قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 403 -404)، والبخاري (2217)، ومسلم (2371)، وأبو داود (2212). [ ص: 184 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 184 ] و (قوله: " لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة ") قد تقدم الكلام على هذه الكذبات في كتاب الإيمان، وذكرنا هناك: أنها أربع، زيد فيها قوله للكوكب: هذا ربي [الأنعام: 77 و 78] ولم يذكرها في هذا الحديث، مع أنه قد جاء بلفظ الحصر، فينبغي ألا يقال عليها: كذبة في حق إبراهيم ، إذ قد نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحصر، وإنما لم تعد عليه كذبة وهي أدخل في الكذب من هذه الثلاث؛ لأنه - والله أعلم - حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حال تكليف، ويقوي هذا المعنى قول من حكى عنه ذلك، كما تقدم في الإيمان.

                                                                                              و (قوله: " اثنتين في ذات الله ") أي: في الدفع عن وجود الله، وبيان حجته على أن المستحق للإلهية هو الله تعالى لا غيره، فاعتذر عما دعوه إليه من الخروج معهم بأنه سقيم، فورى بهذا اللفظ، وهو يريد خلاف ما فهموا عنه - كما بيناه في الإيمان - حتى يخلو بالأصنام فيكسرها، ففعل ذلك، وترك كبير الأصنام لينسب إليه كسرها بذلك، قولا يقطعهم به، فإنهم لما رجعوا من عيدهم فوجدوا الأصنام مكسرة: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين [الأنبياء: 59] فقال بعضهم: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [الأنبياء: 60] وكان هذا الذكر هو قول إبراهيم لهم: وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فلما أحضروه: قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم [الأنبياء: 62] فأجابهم بقوله: [ ص: 185 ] بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون [الأنبياء: 63]. فرجعوا إلى أنفسهم [الأنبياء: 64] أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجة المتفطن لحجة خصمه: فقالوا إنكم أنتم الظالمون [الأنبياء: 64] أي: بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس: ثم نكسوا على رءوسهم [الأنبياء: 65] أي: عادوا إلى جهلهم وعنادهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [الأنبياء: 65] فقال قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [الأنبياء: 66 - 67].

                                                                                              و (قوله: " ذات الله ") يعني به: وجود الله المنزه عن صفات المخلوقات، والمقدس عن ذوات المحدثات، وفيه دليل على جواز إطلاق لفظ الذات على وجود الله تعالى، فلا يلتفت لإنكار من أنكر إطلاقه على المتكلمين.

                                                                                              و (قوله: " وواحدة في شأن سارة ") هذه الواحدة هي من إبراهيم عليه السلام مدافعة عن حكم الله تعالى الذي هو: تحريم سارة على الجبار، والثنتان المتقدمتان مدافعة عن وجود الله تعالى، فافترقا، فلذلك فرق في الإخبار بين النوعين.

                                                                                              و (قوله: " إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك ") قيل: إن ذلك الجبار كانت سيرته: أنه لا يغلب الأخ على أخته، ولا يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدل مساق هذا الحديث، وإلا فما الذي فرق بينهما في حق جبار ظالم؟

                                                                                              [ ص: 186 ] و (قوله: " فإن سألك فأخبريه: أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام ") هذا صحيح ليس فيه من الكذب شيء، وهذا كقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات: 10] لكن لما كان الأسبق للفهم من لفظ الأخوة إنما هي أخوة النسب، كان من باب المعاريض؛ لأن ظاهر اللفظ يوهم شيئا، ومراد المتكلم غيره. وقيل: عليه كذب توسعا، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها كذبا؛ لأن الله تعالى قد أعلمه: أن إبراهيم يطلق ذلك على نفسه يوم القيامة كما تقدم في كتاب الإيمان، وأيضا: فلينبه بذلك على أن الأنبياء منزهون عن الكذب الحقيقي؛ لأنهم إذا كانوا يفرقون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى، وعن دينه، وهي من باب الواجب وتعد عليهم، كان أحرى وأولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع، وفي هذا ما يدل على جواز المعاريض والحيل في التخلص من الظلمة. بل نقول: إنه إذا لم يخلص من الظالم إلا الكذب الصراح جاز أن يكذبه، بل قد يجب في بعض الصور بالاتفاق بين الفرق، ككذبة تنجي نبيا، أو وليا ممن يريد قتله، أو أمنا من المسلمين من عدوهم.

                                                                                              وفيه: ما يدل على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يرجى بها دفع مضرة، أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل، خلافا لما ذهب إليه جهال المتوكلة، وقد تقدم كثير من نحو هذا.

                                                                                              وقول الجبار لسارة حين قبضت يده عنها: " ادعي الله لي " يدل على أن هذا الجبار كان عنده معرفة بالله تعالى، وبأن لله من عباده من إذا دعاه أجابه، ومع [ ص: 187 ] ذلك فلم يكن مسلما؛ لأن إبراهيم عليه السلام قد قال لسارة : " ما أعلم على الأرض مسلما غيري وغيرك ".

                                                                                              وقول الجبار: " لك الله ألا أضرك " الرواية فيه بالنصب، لا يجوز غيره، وهو قسم، ومقسم به، ومقسم عليه، وفيه حذف يتبين بالتقدير، وتقدير ذلك: أقسم بالله على ألا أضرك، فحذف الخافض، فتعدى الفعل فنصب، ثم حذف فعل القسم، وبقي المقسم به - وهو الله تعالى - منصوبا، وكذلك المقسم عليه وهو: ألا أضرك، يعني مفتوح همزة ألا، ويجوز في أضرك رفع الراء على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، ويجوز فيها النصب على أن تكون أن الناصبة للفعل المضارع.

                                                                                              وقول الجبار للذي جاءه بسارة : " إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان ") كلام يناقض قوله: " ادعي الله لي " فيكون ذمه لها عنادا، بعد أن ظهر له كرامتها على الله، أو إخفاء لحالها لئلا يتحدث بما ظهر عليها من الكرامة، فتعظم في نفوس الناس وتتبع، فلبس على السامع بقوله: " إنما أتيتني بشيطان ".

                                                                                              و (قول إبراهيم عليه السلام: " مهيم ") قال الخليل : هي كلمة لأهل اليمن خاصة. معناها: ما هذا؟ وفي الصحاح: هي كلمة يستفهم بها، معناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ ونحوه قال الطبري .

                                                                                              و (قوله: " قالت: خيرا ") هو منصوب بفعل مضمر، أي: فعل الله خيرا. ثم [ ص: 188 ] فسرت الخير بقولها: " كبت الله يد الفاجر، وأخدم خادما ") أي: عصمها الله منه بما أظهر من كرامتها، وأعطاها الله خادما، وهي: هاجر . ويقال: آجر - بالهمزة يبدلونها من الهاء -.

                                                                                              وفيه: جواز قبول هدية المشرك، وقد تقدم القول فيها.

                                                                                              وقول أبي هريرة رضي الله عنه: " فتلك أمكم يا بني ماء السماء "، فتلك: إشارة إلى هاجر ، والمخاطب: العرب. قال الخطابي : سموا بذلك لانتجاعهم المطر، وماء السماء للرعي. وقال غيره: سموا بذلك لخلوص نسبهم، وصفائه. وشبهه بماء السماء. قال القاضي أبو الفضل : والأظهر عندي: أن المراد به الأنصار . نسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ، وكان يعرف بماء السماء، وهو مشهور. والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، والله أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية