الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أما قوله - تعالى - : وخلق منها زوجها فمعناه على الوجه الذي قررناه يظهر بطريق الاستخدام بحمل النفس على الجنس ، وإعادة الضمير عليه بمعنى أحد الزوجين ، أو بجعل العطف على محذوف يناسب ذلك كما قال الجمهور ، أي وحد تلك الحقيقة أولا ، ثم خلق لها زوجها من جنسها . ومعناه المراد عند الجمهور أن الله - تعالى - خلق لتلك النفس التي هي آدم زوجا منها وهي حواء ، قالوا : إنه خلقها من ضلعه الأيسر ، وهو نائم ، وذلك ما صرح به في الفصل الثاني من سفر التكوين ، وورد في بعض الأحاديث ، ولولا ذلك لم يخطر على بال قارئ القرآن ، وهناك قول آخر اختاره أبو مسلم كما قال الرازي وهو : أن معنى " خلق منها [ ص: 271 ] زوجها " خلقه من جنسها ، فكان مثلها ، فهو كقوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 : 21 ] وقوله : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 : 72 ] وقوله : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 : 11 ] ومن هذا القبيل قوله - عز وجل - : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 : 128 ] وقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [ 3 : 164 ] ومثلهما في سورة البقرة ، وسورة الجمعة . فلا فرق بين عبارة الآية التي نفسرها ، وعبارة هذه الآيات ، فالمعنى في الجميع واحد ، ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فهو غير ملجأ إلى إلصاق ذلك بالآية ، وجعله تفسيرا لها ، وإخراجها عن أسلوب أمثالها من الآيات .

                          هذا وإن في النفس الواحدة وجها آخر وهو أنها الأنثى ; ولذلك أنثها حيث وردت ، وذكر زوجها الذي خلق منها في آية الأعراف ، فقال : ليسكن إليها [ 7 : 189 ] وعليه يظهر افتتاح السورة بها ، ووجه تسميتها بالنساء أكثر ، وأصحاب هذا الرأي يقولون : إنه من قبيل ما هو ثابت إلى اليوم عند العلماء من التوالد البكري ، وهو أن إناث بعض الحيوانات الدنيا تلد عدة بطون بدون تلقيح من الذكور ، ولكن لا بد أن يكون قد سبق تلقيح لبعض أصولها ، وخلق زوجها منها على هذا الوجه يحتمل أن يكون منها ذاتها وأن يكون من جنسها . وثم وجه آخر قريب من هذا ، وهو أن النفس الواحدة كانت جامعة لأعضاء الذكورة ، والأنوثة كالدودة الوحيدة ، ثم ارتقت ، فصار أفرادها زوجين ، قال بهذا ، وذاك بعض الباحثين العصريين ، ومحل تحقيقه تفسير آية أخرى .

                          وذكر الزمخشري وجهين في عطف وخلق منها زوجها على ما قبله ، أحدهما : أنه معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها ، وابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها إلخ . وثانيهما : أنه معطوف على خلقكم قال : والمعنى : خلقكم من نفس آدم لأنها من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر . أقول : وفيه اكتفاء ، أي ونساء كثيرا .

                          وقال الأستاذ الإمام : نكر " رجالا " ، " ونساء " ، وأكد هذا بقوله : كثيرا إشارة إلى كثرة الأنواع ، وإلى أنه ليس المراد بالتثنية في قوله : منهما آدم وحواء بل كل زوجين ، وهو ينطبق على ما قلناه في تفسير الجملة السابقة ، ثم إن ذكر خلق الزوج بعد ذكر خلق الناس لا يقتضي تأخره عنه في الزمن ; فإن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، ولا ينافي كون [ ص: 272 ] الكلام مرتبا متناسقا كما تطلب البلاغة ، فإنه جاء على أسلوب التفصيل بعد الإجمال . يقول : إنه خلقكم من نفس واحدة ، فهذا إجمال فصله ببيان كونه خلق من جنس تلك النفس زوجا لها ، وجعل النسل من الزوجين كليهما ، فجميع سلائل البشر متولدة من زوجين ذكر ، وأنثى اهـ . ويرد على قوله : إن الواو لا تفيد الترتيب آية الزمر خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها [ 39 : 6 ] وقد أجابوا عنه بما يذكر في محله .

                          ويرد على رأي أبي مسلم ، ورأي الجمهور أن بث الرجال والنساء من الزوجين معا ينافي كونهم مخلوقين من نفس واحدة ، ويناقضه ، ولا يرد على جعل النفس الواحدة عبارة عن الجنس ، والحقيقة الجامعة ، فكونهم من جنس واحد لا ينافي كون هذا الجنس خلق زوجين ذكرا ، وأنثى ، وكونه بث منهما رجالا كثيرا ونساء ، بل ولا جميع الرجال والنساء كما هو ظاهر . ونقل الرازي ، عن القاضي أن هذا الاعتراض وارد على القول الذي اختاره أبو مسلم ، وهو كون الزوج خلق من جنس تلك النفس خلقا مستقلا دون قول الجمهور الذين يقولون : إن الزوج خلق من النفس ذاتها بخلق حواء من ضلع آدم .

                          والظاهر أنه وارد على القولين ; لأن الواقع ، ونفس الأمر أن الناس مخلوقون من الزوجين الذكر والأنثى ، وهما نفسان ثنتان سواء خلقتا مستقلتين ، أو خلقت إحداهما من الأخرى كما قال - تعالى - : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا [ 49 : 13 ] الآية ، ولكن التأويل على قول الجمهور أسهل ، إذ يقولون : إنهم لما كانوا من نفسين : إحداهما مخلوقة من الأخرى صاروا بهذا الاعتبار من نفس واحدة ، وليس تأويل القول الآخر بالعسير ، فقد قال الرازي فيه : ويمكن أن يجاب بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم - عليه السلام - صح أن يقال : خلقكم من نفس واحدة وأيضا فلما ثبت أنه - تعالى - قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب ، وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم . انتهى كلامه ، وهو يدل على اختياره ما اختاره أبو مسلم ، ومثله الأستاذ الإمام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية