الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك [ ص: 228 ] العمومات ، وتقييد تلك المطلقات ، وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل ، وأصلوا منها أصولا يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله ، إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد ، وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص ، فلذلك قسم الناس البدع ، ولم يقولوا بذمها على الإطلاق ؟

                        وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :

                        أحدها : ما في الصحيح :

                        من قوله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة حسنة; كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن سن سنة سيئة; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا .

                        وخرج الترمذي وصححه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دل على خير; فله أجر فاعله .

                        وخرج أيضا عن جرير بن عبد الله ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة خير ، فاتبع عليها ، فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ، ومن سن سنة شر ، فاتبع عليها; كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا " ; حسن صحيح .

                        فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنة خير; فذلك خير .

                        [ ص: 229 ] ودل على أنه فيمن ابتدع " من سن " ، فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ، ولو كان المراد : " من عمل سنة ثابتة في الشرع " ; لما قال : " من سن " .

                        ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها; لأنه أول من سن القتل ، فـ " سن " هاهنا على حقيقته; لأنه اختراع ما لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام .

                        فكذلك قوله : من سن سنة حسنة ; أي : من اخترعها من نفسه ، لكن بشرط أن تكون حسنة ، فله من الأجر ما ذكر ، فليس المراد : من عمل سنة ثابتة ، وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنة من سنتي . . . . وما أشبه ذلك; كما خرج الترمذي :

                        أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : " اعلم " ، قال : أعلم يا رسول الله ، قال : " اعلم يا بلال " ، قال : أعلم يا رسول الله ، قال : " إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي; فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله; كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا " ; حديث حسن .

                        وعن أنس رضي الله عنه; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني ! إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل " ، ثم قال لي : [ ص: 230 ] " يا بني ! وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي; فقد أحبني ، ومن أحبني; كان معي في الجنة ; حديث حسن .

                        فقوله : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ; واضح في العمل بما ثبت أنه سنة ، وكذلك قوله : من أحيا سنتي; فقد أحبني ; ظاهر في السنن الثابتة ، بخلاف قوله : " من سن كذا " ; فإنه في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة .

                        وأما قوله لبلال بن الحارث : ومن ابتدع بدعة ضلالة ; فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق ، بل بشرط أن تكون ضلالة ، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله ، فاقتضى ( هذا كله ) أن البدعة إذا لم تكن كذلك; لم يلحقها ذم ، ولا تبع صاحبها وزر ، فعادت إلى أنها سنة حسنة ، ودخلت تحت الوعد بالأجر .

                        والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم وأعلاهم الصحابة قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه ، ولا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ، وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن .

                        فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف ، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية ، واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن في ذلك قصر ولا حصر .

                        [ ص: 231 ] ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن ، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ، ومن سبقهم في ذلك مالك بن أنس ، وقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع .

                        هذا ، وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره; فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء بها عن الحفظ والتحصيل ، وإما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة .

                        ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر ، وقل المجتهدون في التحصيل ، فخافوا على الدين الدروس جملة .

                        قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه ، وخرج عليه الإجارة على كتبه ، وحكى الخلاف ; وقال : " لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز; لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت ، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب .

                        قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب ، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ، ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا ، فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال : لا .

                        فهذا كان شأن الناس ، فلو سار الناس لسيرتهم ، لضاع العلم ، ولم يكن بيننا منه رسمه ، وهكذا الناس اليوم يقرءون كتبهم ، ثم هم في التقصير على ما هم عليه " .

                        وأيضا; فإنه لا خلاف عندنا في مسائل الفروع : أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب ، وإذا كان كذلك; كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي [ ص: 232 ] إلى التقصير في الاجتهاد ، وأن لا يوضع مواضعه; لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوة وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه .

                        انتهى ما قاله اللخمي ، وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم ; لأن له وجها صحيحا ، فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح; فليس بمذموم ، بل هو محمود ، وصاحبه الذي سنه ممدوح ، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟ !

                        وقد قال عمر بن عبد العزيز : " تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور " ، فأجاز كما ترى إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور ، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل .

                        وقتل الجماعة بالواحد ، وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم .

                        وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ، ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعي ، وإنما علل بأمر مصطلحي ، وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة .

                        فإن كان ذلك جائزا مع أنه مخترع; فلم لا يجوز مثله وقد اجتمعا في العلة لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة ؟ ! وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا; فلم اجتمعوا على جملة منها ، وفرع غيرهم على بعضها ؟ ! ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيره ، وإن اجتمعا [ ص: 233 ] في العلة المسوغة للقياس ، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما ، وهو باطل ، فما أدى إليه مثله ، فثبت أن البدع تنقسم .

                        فالجواب ، وبالله التوفيق ، أن نقول :

                        أما الوجه الأول; فإن قوله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة حسنة ، الحديث . فليس المراد به الاختراع ألبتة ، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ، إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ، فإن زعم أنه مظنون; فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به ، فيلزم التعارض بين القطعي والظني ، والاتفاق من المحققين على تقديم القطعي .

                        ولكن فيه النظر من وجهين :

                        أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين ، إذ تقدم أولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص ، وإذا تعاضدت أدلة العموم من [ غير ] تخصيص; لم يقبل بعد ذلك التخصيص .

                        والثاني : على التنزل لفقد التعارض ، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع ، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية ، وذلك لوجهين :

                        أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة; بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما :

                        [ ص: 234 ] قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف ، عامتهم مضر بل كلهم من مضر .

                        فقمص وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآهم من الفاقة ، فدخل ، ثم خرج فأمر بلالا ، فأذن وأقام ، فصلى ، ثم خطب ، فقال : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) . . . . . والآية التي في سورة الحشر : اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد )
                        .

                        " وبعد : تصدق رجل; من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره " حتى قال : " ولو بشق تمرة " .

                        قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت . قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

                        من سن في الإسلام سنة حسنة; فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء
                        .

                        فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة حسنة " ، و " من سن سنة سيئة " ، تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه ، حتى بتلك الصرة ، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، [ ص: 235 ] فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال : من سن في الإسلام سنة حسنة . . . . . الحديث ، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي ، وهو العمل بما ثبت كونه سنة ، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي الحديث إلى قوله ومن ابتدع بدعة ضلالة ، فجعل مقابل تلك السنة الابتداع ، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة ، وكذلك قوله : ومن أحيا سنتي فقد أحبني .

                        ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر; لأنه صلى الله عليه وسلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية ، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله ، فليس معناه : من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة .

                        ونحو ( هذا ) الحديث في " رقائق ابن المبارك " مما يوضح معناه عن حذيفة :

                        قال : قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل ، فسكت القوم ، ثم إن رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استن خيرا فاستن به; فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن استن شرا فاستن به; فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا .

                        [ ص: 236 ] فإذا; قوله : من سن سنة ; معناه : من عمل بسنة ، لا من اخترع سنة .

                        والوجه الثاني من وجهي الجواب :

                        أن قوله : من سن سنة حسنة ، ومن سن سنة سيئة ; لا يمكن حمله على الاختراع من أصل; لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع; لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه ، وهو مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة أعني : التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة ، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي; كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم ، حيث قال عليه السلام : لأنه أول من سن القتل ، وعلى البدع; لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع; كما تقدم .

                        وأما قوله : من ابتدع بدعة ضلالة ، فهو على ظاهره; لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء ، فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ; كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب .

                        ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله : ومن سن سنة سيئة ; أي : من اخترعها ، وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي; كالقتل من أحد ابني آدم ، وما كان مخترعا بحكم الحال ، إذ كانت قبل مهملة متناساة ، فأثارها عمل هذا العامل .

                        [ ص: 237 ] فقد عاد الحديث والحمد لله حجة على أهل البدع من جهة لفظه ، وشرح الأحاديث الأخر له .

                        وإنما يبقى النظر في قوله : ومن ابتدع بدعة ضلالة ، وأن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما ، والأمر فيه قريب; لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما; وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول; فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع; كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) ، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق ، بالأدلة المتقدمة ، فلا مفهوم أيضا .

                        والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة ، والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه .

                        أما جمع المصحف وقصر الناس عليه ; فهو على الحقيقة من هذا الباب ، إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف; تسهيلا على العرب المختلفات اللغات ، فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة .

                        إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لباب الاختلاف في القرآن ، حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله [ ص: 238 ] تعالى ، فخاف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلاف الأمة في ينبوع الملة ، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه ، واطرحوا ما سوى ذلك ، علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما أثبتوه ، لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن .

                        ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ، ودخل في الإسلام أهل العجمة; خوفا من فتح باب آخر من الفساد ، وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها ، فيستعينوا بذلك في بث إلحادهم ، ألا ترى أنه لما لم يمكنهم الدخول من هذا الباب; دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ؟

                        فحق ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، وذلك لا خلاف فيه; لقوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ، وأمته مثله ، وفي الحديث :

                        ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأشباهه .

                        والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة; لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، وكذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل [ بـ ] الإبطال; كمسألة المصحف ، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح .

                        [ ص: 239 ] وأما ما سوى المصحف; فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة كتابة العلم :

                        ففي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه .

                        وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه قال : " ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن عمرو; فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب " .

                        وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره; منهم : عثمان ، وعلي ، ومعاوية ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم .

                        وأيضا; فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم ، كما خيف دروسه حينئذ ، وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم .

                        وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم بدعة; فإما متجوز ، وإما غير عارف بموضع لفظ البدعة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع .

                        وإن تعلق [ وا ] بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها ( غير ) صحيح عند جماعة من الأصوليين; فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه ، وإذا ثبت اعتبارها في صورة; ثبت [ ص: 240 ] اعتبارها مطلقا ، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع .

                        وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين; تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور .

                        فأعطى الحديث كما ترى أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي; فذلك سنة لا بدعة ، وإما بغير دليل ومعاذ الله من ذلك ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة ، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة ، فدليلهم من الشرع ثابت ، فليس ببدعة ، ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق ، ولو كان عملهم ذلك بدعة; لوقع في الحديث التدافع .

                        وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد; لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين .

                        ( وتضمين الصناع ) ، وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم .

                        وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز ; فلم أره ثابتا من طريق صحيح ، وإن سلم; فراجع إما لأصل المصالح المرسلة إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرؤن منهم; دل على أن البدع [ ص: 241 ] مباينة لها ، وليست منها في شيء ، ولهذه المسألة باب تذكر فيه بعد إن شاء الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية