الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال - تعالى - : وارزقوهم فيها واكسوهم أما من فسروا [ ص: 315 ] السفهاء بأولاد المخاطبين ، ونسائهم معا أو بأحدهما ، وجعلوا إضافة أموال المخاطبين إليهم على حقيقتها ، فقالوا في معنى هذه الجملة : إذا امتنع عليكم أيها الناس أن تعطوا أموالكم ولدانكم ونساءكم خشية أن يبذروها ، ويتلفوها ، وهي قيامكم ، وعليها مدار معاشكم ، فعليكم أن تتولوا أنتم إصلاحها ، وتثميرها ، والإنفاق عليهم منها في طعامهم ، وكسوتهم ، فهي في وجوب إنفاق الرجل على زوجه وأولاده القاصرين الذين لا يحسنون الكسب ، وروي نحوه عن ابن عباس .

                          ومن قالوا إن الكلام في السفهاء عامة ، وفي حفظ الأولياء لأموالهم قالوا : إن معناها يا أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء ، وتثميرها حتى كأنها - بهذا التصرف وبارتباط مصالح أصحابها بمصالحكم ، وبتكافل الأمة والعشيرة ووحدتها - أموالكم يجب عليكم أن تنفقوا على السفهاء ، فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام ، والثياب ، وغير ذلك ، ومن قالوا : إن لفظ السفهاء عام في أولاد المخاطبين ، ونسائهم ، واليتامى وغيرهم ، ولفظ أموالكم عام فيما هو للمخاطبين وهم جميع ، وما هو للسفهاء ، وهو الذي اختاره ابن جرير - وقلنا إنه أحسن الأقوال - جعلوا معناها شاملا للمعنيين السابقين في الإنفاق على من تجب على الرجل نفقته من مال نفسه ، والإنفاق على من يتولى أمره من السفهاء ممن لا تجب عليه نفقته من ماله أي مال نفسه .

                          وإنما قال : وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأن المراد كما قال في الكشاف : اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا ; حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق اهـ . أي إن ما ينفق من أصله ، وصلبه ينقص رويدا رويدا حتى يذهب كله ، وتبع الكشاف فيما قاله الإمام الرازي ، والأستاذ الإمام .

                          وقال الأستاذ الإمام : الرزق يعم وجوه الإنفاق كلها كالأكل ، والمبيت ، والزواج ، والكسوة ، وإنما قال :واكسوهم فخص الكسوة بالذكر لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا ، وتخصيص ( الجلال ) - أي وغيره ممن نقل هو عنهم - الرزق بالإطعام لا يصح اهـ .

                          وقال الرازي : إن الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم ، يقال : فلان رزق عياله أي أجرى عليهم اهـ . يعني أن كل النفقات المرتبة في أوقات معينة تسمى رزقا ، وهو معنى اصطلاحي أخص من المعنى اللغوي . والغرض من هذا وذاك هو جعلهم الرزق هنا شاملا لأنواع النفقات الواجبة بالنص حتى لا يقول قائل : إن الواجب هو الطعام ، والكسوة دون الإيواء ، والتربية ، والتعليم وغير ذلك .

                          وقد فسر بعضهم قوله - تعالى - : وقولوا لهم قولا معروفا بتعليمهم ما يجب علمه وما يجب العمل به ، نقله الرازي ، عن الزجاج ، وقيل : هو الوعد الجميل للسفيه بإعطائه ماله عند الرشد . وقيل : بل وعده بزيادة الإدرار عليه والتوسعة عند زيادة ربح المال وغلبته .

                          وقيل : هو الدعاء . وفصل القفال فقال : إن كان المولى عليه صبيا ( أي صغيرا ولو أنثى ) [ ص: 316 ] فالولي يعرفه أن المال ماله ، وهو خازن له ، وأنه إذا زال صباه ، فإنه يرد المال عليه ، وإذا كان المولى عليه سفيها ، وعظه ، ونصحه ، وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والإسراف ، وعرفه أن عاقبته الفقر ، والاحتياج إلى الخلق إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام ، قال الرازي : وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه . وقال الأستاذ الإمام : المعروف هو ما تعرفه النفوس الكريمة ، وتألفه ، ويقابله المنكر وهو : ما تنكره وتمجه . فالمعروف هنا : يشمل تطييب القلوب بإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد في الإنفاق منه عليه ليسهل عليه الحجر ، ويشمل النصح ، والإرشاد ، وتعليم ما ينبغي أن يعلمه ، وما يعده للرشد ، فإن السفه كثيرا ما يكون عارضا للشخص لا فطريا ، فإذا عولج بالنصح والتأديب حسنت حاله ، فهذا هو القول المعروف الذي أمر الله أولياء السفهاء به زيادة على حفظ أموالهم ، وتثميرها ، والإنفاق عليهم منها .

                          أقول : فأين مكان هذه الوصايا ، والأوامر الإلهية من الأولياء ، والأوصياء الذين نعرفهم في هذا الزمان يأكلون أموال السفهاء ، ويمدونهم في سفههم ، ويحولون بينهم وبين أسباب الرشد ليبقوا متمتعين بالتصرف في أموالهم ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية