الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  83 25 - حدثنا إسماعيل ، قال : حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه ، فجاءه رجل فقال : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ، فقال : اذبح ولا حرج ، فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ، قال : ارم ولا حرج ، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : افعل ولا حرج .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن المذكور في الحديث هو الاستفتاء والإفتاء والترجمة هي الفتيا .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة ، الأول : إسماعيل بن أبي أويس ابن أخت مالك .

                                                                                                                                                                                  الثاني : مالك بن أنس الإمام .

                                                                                                                                                                                  الثالث : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي ، تابعي ثقة من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم ، أخو موسى ومحمد ، مات سنة مائة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم مدنيون ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل عن مالك ، وفي العلم أيضا عن أبي نعيم عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، وفي الحج عن عبد الله بن يوسف عن مالك ، وعن إسحاق عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح ، وعن سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي عن أبيه عن ابن جريج ، وفي النذور : حدثني عثمان بن الهيثم عن ابن جريج ، أربعتهم عن الزهري عنه به ، وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به ، وعن الحسن بن علي الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم به ، وعن سعيد بن يحيى عن أبيه ، وعن علي بن خشرم عن عيسى بن يونس ، وعن عبد بن حميد عن محمد بن بكر ، ثلاثتهم عن ابن جريج به ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب ، كلاهما عن سفيان بن عيينة ، وعن حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن يونس ، وعن ابن أبي عمرو عبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرازق عن معمر ، وعن محمد بن عبد الله بن قهزاد عن علي بن الحسن عن ابن شقيق عن ابن المبارك عن محمد بن أبي حفصة ، أربعتهم عن الزهري به ، وأخرجه أبو داود في الحج عن القعنبي عن مالك به ، وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وابن أبي عمر ، كلاهما عن سفيان به ، وقال : حسن صحيح ، وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة عن سفيان به ، وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن غندر عن معمر به ، وعن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن مالك به ، وعن أحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب عن مالك ويونس به ، وأخرجه ابن ماجه فيه أيضا عن علي بن محمد عن سفيان به مختصرا : أن النبي صلى الله عليه وسلم " سئل عمن ذبح قبل أن يحلق ، أو حلق قبل أن يذبح ، قال : لا حرج " .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 89 ] بيان اللغات : قوله " العاصي " الجمهور على كتابته بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ، ويقع في كثير من الكتب بحذفها ، وقد قرئ في السبع نحوه كـ الكبير المتعال و الداع قال الكرماني : وقيل أجوف وجمعه الأعياص ، قلت : العاصي من العصيان وجمعه عصاة كالقاضي يجمع على قضاة ، والأعياص جمع عيص بكسر العين وهو الشجر الكثير الملتف ، وقال عمارة : العيص من السدر والعوسج والسلم من العصاة كلها إذا اجتمع وتدانى والتف ، وفي العباب : والجمع عيصان وأعياص ، وفيه : والأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر ، وهم أربعة : العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص ، وقال أبو عمرو : العيصان من معادن بلاد العرب ، قوله “ في حجة الوداع " بكسر الحاء وفتحها ، والمعروف في الرواية الفتح ، قال الجوهري : الحجة بالكسرة المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس الفتح ، وفي العباب الحج بالكسر الاسم والحجة المرة الواحدة وهذا من الشواذ ، قلت : يعني القياس في المرة الفتح ، قالوا : المفعل للموضع والمفعل للآلة ، والفعلة للمرة والفعلة للحالة ، والحجة أيضا السنة والجمع الحجج ، وذو الحجة شهر الحج والجمع ذوات الحجة كذوات القعدة ، ولم يقولوا ذووا على واحده ، والحجة أيضا شحمة الأذن ، و" الوداع " بفتح الواو اسم التوديع كالسلام بمعنى التسليم ، وقال الكرماني : جاز الكسر بأن يكون من باب المفاعلة وتبعه على هذا بعضهم ; وما أظن هذا صحيحا لأنه بالكسر يتغير المعنى لأن الموادعة معناها المصالحة وكذا الوداع بالكسر ، والمعنى هو التوديع وهو عند الرحيل معروف وهو تخليف المسافر الناس خافضين وادعين وهم يودعونه إذا سافر تفاؤلا بالدعة التي يصير إليها إذا نقل أو يتركونه وسفره ، قوله “ بمنى " هو قرية بالقرب من مكة تذبح فيها الهدايا وترمى فيها الجمرات ، وهو مقصور مذكر مصروف ، قوله “ لم أشعر " بضم العين أي لم أعلم أي لم أفطنه ، يقال شعر يشعر من باب نصر ينصر شعرا وشعرة وشعرى بالكسر فيهن وشعرة وبالفتح وشعورا ومشعورا ومشعورة ، قال الصغاني : شعرت بالشيء أعلمت به وفطنت له ، ومنه قولهم : ليت شعري معناه ليتني أشعر ، والشعر واحد الأشعار ، قوله “ ولا حرج " أي ولا إثم ، قوله “ فنحرت " النحر في اللبة مثل الذبح في الحلق وتستعمل بمعنى الذبيح .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " وقف " جملة في محل الرفع لأنها خبر أن ، قوله “ بمنى " في محل النصب على الحال ، قوله “ يسألونه " في محل النصب على الحال من الضمير الذي في وقف ، ويجوز أن يكون من الناس أي وقف لهم حال كونهم سائلين عنه ، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لعلة الوقوف ، قوله “ فجاء رجل " عطف على قوله " وقف " قوله “ فحلقت " الفاء فيه سببية وكذلك الفاء في فنحرت كأنه جعل الحلق والنحر كلا منهما مسببا عن عدم شعوره كأنه يعتذر لتقصيره ، قوله “ قبل أن أذبح " أن فيه مصدرية أي قبل الذبح ، قوله “ ولا حرج " كلمة لا للنفي ، وقوله " حرج " اسمه مبني على الفتح وخبره محذوف والتقدير لا حرج عليك ، قوله “ فجاء آخر " أي رجل آخر ، قوله “ أن أرمي " أن فيه أيضا مصدرية أي قبل الرمي ، قوله “ فما سئل " على صيغة المجهول و " النبي " مفعول ناب عن الفاعل و " عن شيء " يتعلق بالسؤال ، قوله “ قدم " على صيغة المجهول ، جملة في محل الجر لأنها صفة لشيء ، قوله “ ولا أخر " أيضا على صيغة المجهول عطف على قدم ، والتقدير لا قدم ولا أخر لأن الكلام الفصيح قل ما يقع لا الداخلة على الماضي فيه إلا مكررة ، وحسن ذلك هنا لأنه وقع في سياق النفي ، ونظيره قوله تعالى : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم وفي رواية مسلم " ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج " .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : فيه حذف المفاعيل من قوله " فحلقت " و" أن أذبح " و" أذبح " و " فنحرت " و" أن أرمي " و" ارم " للعلم بها بقرينة المقام ، قوله “ عن شيء " أي مما هو من الأعمال يوم العيد وهي الرمي والنحر والحلق والطواف ، قوله “ افعل ولا حرج " قال القاضي : قيل هذا إباحة لما فعل وقدم وإجازة له لا أمر بالعيادة كأنه قال افعل ذلك كما فعلته قبل أو متى شئت ولا حرج عليك ; لأن السؤال إنما كان عما انقضى وتم .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول فيه جواز سؤال العالم راكبا وماشيا وواقفا ، الثاني : فيه جواز الجلوس على الدابة للضرورة بل للحاجة كما كان جلوسه عليه الصلاة والسلام عليها ليشرف على الناس ولا يخفى عليهم كلامه لهم ، الثالث : في ترتيب الأعمال المذكورة في الحديث هل هو سنة ولا شيء في تركه أو واجب يتعلق الدم بتركه ؟ فإلى الأول ذهب الشافعي وأحمد ، وإلى الثاني ذهب أبو حنيفة ومالك ، وقال عياض : أجمع العلماء على أن سنة الحاج أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يطوف [ ص: 90 ] وقال غيره : فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا إثم عليه ولا فدية ; لهذا الحديث ولعموم قوله " ولا حرج " وهذا مذهب عطاء وطاوس ومجاهد وقول أحمد وإسحاق والمشهور من قول الشافعي ، وحملوا قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله على المكان الذي يقع فيه النحر ، وللشافعي قول ضعيف أنه إذا قدم الحلق على الرمي والطواف لزمه الدم بناء على قوله الضعيف عند أصحابه أن الحلق ليس بنسك ، قال النووي : وبهذا القول قال أبو حنيفة ومالك ، ويروى عن سعيد بن جبير والحسن والنخعي وقتادة ، ورواية شاذة عن ابن عباس أن من قدم بعضها على بعض لزمه الدم ، وقال المازري : لا فدية عليه عند مالك ، يعني في تقديم بعضها على بعض إلا الحلق على الرمي فعليه الفدية ، وقال عياض وكذا إذا قدم الطواف للإفاضة على الرمي عنده فقيل يجزئه وعليه الهدي ، وقيل لا يجزئه ، وكذلك قال إذا رمى ثم أفاض قبل أن يحلق ، وأجمعوا على أن من نحر قبل الرمي لا شيء عليه ، واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في وجوب الفدية وعدمها وإنما اختلفوا في الإثم وعدمه عند من منع التقديم ، قلت : إذا حلق قبل أن يذبح فعليه دم عند أبي حنيفة ، وإن كان قارنا فعليه دمان ، وقال زفر : إذا حلق قبل أن ينحر عليه ثلاثة دماء : دم للقران ودمان للحلق قبل النحر ، وقال إبراهيم : من حلق قبل أن يذبح أهرق دما ، وقال أبو عمر : لا أعلم خلافا فيمن نحر قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه ، قال : واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمي ، فكان ابن عمر يقول : يرجع فيحلق أو يقصر ثم يرجع إلى البيت فيفيض ، وقال عطاء ومالك والشافعي وسائر الفقهاء : يجزئه الإفاضة ويحلق أو يقصر ولا شيء عليه ، قلت : احتج الشافعي وأحمد ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه بظاهر الحديث المذكور ، فإن معنى قوله " ولا حرج " أي لا شيء عليك مطلقا من الإثم لا في ترك الترتيب ولا في ترك الفدية ، واحتجت الحنفية فيما ذهبوا إليه بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من قدم شيئا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دما ، وتأويل الحديث المذكور " لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا " لأنكم فعلتموه على الجهل منكم لا على القصد منكم خلاف السنة ، وكانت السنة خلاف هذا ، وأسقط عنهم الحرج وأعذرهم لأجل النسيان وعدم العلم ، والدليل عليه قول السائل " فلم أشعر " وقد جاء ذلك مصرحا في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح " أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سأله رجل في حجته فقال : إني رميت وأفضت ونسيت فلم أحلق ، قال : فاحلق ولا حرج ، ثم جاء رجل آخر فقال : إني رميت وحلقت ونسيت أن أنحر ، فقال : انحر ولا حرج " فدل ذلك على أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لأجل نسيانهم ولجهلهم أيضا بأمر المناسك لا لغير ذلك ; وذلك أن السائلين كانوا ناسا أعرابا لا علم لهم بالمناسك ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " لا حرج " يعني فيما فعلتم بالنسيان وبالجهل لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد ، ومما يؤيد هذا ويؤكده قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ، والحال أنه أحد رواة الحديث المذكور ، فلو لم يكن معنى الحديث عنده على ما ذكرنا لما قال بخلافه ، ومن الدليل على ما ذكرنا أن ذلك كان بسبب جهلهم : ما رواه أبو سعيد الخدري ، أخرجه الطحاوي قال : سئل رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي ، قال : لا حرج ، ثم قال : عباد الله وضع الله عز وجل الحرج والضيق ، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم " قال الطحاوي : أفلا يرى إلى أنه أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها ، فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك ، فإن قلت : قد جاء في بعض الروايات الصحيحة ولم يأمر بكفارة ؟ قلت : يحتمل أنه لم يأمر بها لأجل نسيان السائل ، أو أمر بها وذهل عنه الراوي .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية