الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الكتابة في حكم اللسان

والكتابة في حكم اللسان ، بل فيها الإيذاء من اليد واللسان كليهما .

وتخصيص المسلمين ، وقع اعتبارا بالأغلب; لأن أهل الذمة المطيعين للإسلام داخلون في هذا الحكم .

وفي رواية ابن حبان : «من سلم الناس» ، كذا ذكر السيوطي ، وهو يعم المسلم والذمي .

وعلى كل تقدير ، المراد : ترك الإيذاء باطلا ، وإلا ، يجوز كل ما ورد به الشرع من الزجر والضرب والشتم ، بل يجب ذلك في بعض المواضع .


أبي حكم شرع آب خوردن خطاست وكرخون بفتوى بريزي روا ست



والمقصود : أن صفة المسلم ألا يؤذي مسلما . وينبغي أن يكون المسلم على هذه الصفة ، وأن من ليس على هذا الوصف ليس بمسلم .

[ ص: 117 ] ليس المراد بهذا : أن من فيه هذه الصفة هو مسلم كامل ، وإن كان في سائر الأحكام وباقي أركان الدين قاصرا ، كما قيل :

مباش دربي آزار و ، رجه خوا ، ي كن     كهدر شريعت ما غيرا زين كنا ، ى نيست



وفي الحقيقة ، المراد : أن من يؤدي حقوق الخلق بعد أداء حقوق الخالق ، فهو المسلم الكامل . انتهى .

تناقض الحنفية في إثبات الزيادة والنقصان للإيمان ونفيهما عنه

قلت : تقييد أمثال هذا الحديث بالإيمان الكامل ، والإسلام الكامل ، كما يقع من كثير من علماء الحنفية - رحمهم الله تعالى - دليل واضح على أن الإيمان يكون كاملا وناقصا ، وهذا هو المراد بقول غيرهم : «الإيمان يزيد وينقص» .

وهذا موضع العجب من القائلين بهذا القول ، فإنهم ينفون زيادة الإيمان ونقصانه في العقائد والأصول ، ويقيدون الآيات والأحاديث الواردة بذلك في كل موضع من حيث لا يشعرون ، فكان هذا من قبيل المثل السائر : «رمتني بدائها وانسلت» .

«والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» . قال في الترجمة : أي : المؤمن الكامل : هو الذي أمن الناس من تصرفه في الدماء والأموال بالباطل الذي لم يأت به الشرع .

قال : وظاهر الحديث يوهم تغاير الإسلام والإيمان ، والمسلم والمؤمن ، واختلاف حكمهما .

ولكن المراد بهما هاهنا شيء واحد ، والجملة الثانية مؤكدة مقررة للأولى .

رتب على الإسلام سلامة الناس ، وعلى الإيمان أمن الناس ، تفننا ، ورعاية للمناسبة .

[ ص: 118 ] واقتصر في الثاني على معاصي اليد ، ولم يذكر معاصي اللسان; لأن آفة اللسان ظاهر شائع ، لا تحتاج إلى التكرار والتذكار ، وآفة اليد محتاجة إلى البيان والتقرير . كذا ذكر الطيبي .

ويمكن أن يقال : لما كان الإيمان الذي هو عبارة عن التصديق ، وعمل القلب أقوى وأكمل من الإسلام الذي هو الانقياد والاستسلام في الظاهر ، خصص الإيمان بالأمن الذي هو أقوى من السلامة; لأن فيها عدم إصابة الضرر مع توهم إصابته واحتماله ، وفي الأمر قطع هذا التوهم والاحتمال مطلقا .

وأيضا ليس الأمن والخوف في الدماء والأموال يختص باليد ، بل فيه دخل اللسان أيضا ، بالسعاية والنميمة وغيرهما .

ولم يذكر الأعراض مع الدماء وغيرها ، اكتفاء بذكر الدماء; فإنها في حكمها ، فافهم . وبالله التوفيق .

رواه الترمذي ، والنسائي ، وزاد البيهقي في «شعب الإيمان» برواية فضالة :

والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» .

قال في الترجمة : أي : المجاهد الحقيقي الكامل : من يقاتل مع نفسه الأبية الأمارة بالسوء ، فيأسره ويجره إلى طاعة الله ورسوله بالقهر والمجاهدة :

سل شيرى دان كه صفها بشكند     شيرآن باشدكه خودرا بشكند



«والمهاجر : من هجر الخطايا والذنوب» صغائرها وكبائرها ، عمدها ، وخطأها .

قال في الترجمة : الهجرة في الشرع بمعنى : الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام ، والفرار من فتنة الدين ، وهذا هو الهجرة الظاهرة .

وأما الهجرة الباطنة ، فهي الخروج من الطبيعة ، ومما تدعو إليه النفس والشيطان ، والفرار منه وتركه .

[ ص: 119 ] وفي الحقيقة شرعت الهجرة لهذا الغرض . ومن حصل منه هذا ، فهو مهاجر في المعنى ، وإن كان في الوطن ، إلا أن تجب صورة الهجرة وظاهرها كما اتفق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنها وجبت على المسلمين من «مكة» إلى «المدينة» .

والمقصود من هذا الحديث : حث وترغيب المهاجرين في ترك المناهي; لئلا يكتفوا بمجرد الاسم والصورة ، ويغتروا بها ، أو تسلية لهم ، بأنهم لما لم يجدوا صورة الهجرة ، وجدوا ثوابها بترك المنهيات . انتهى .

قلت : ويشترط في الهجرة الظاهرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أمن المهجر ، حتى يعبد الله جهارا ، ويتبع الكتاب والسنة بلا نكر عليه .

وكذلك ينبغي أن يكون في الهجرة المعنوية أمن القلب من الوقوع في الموبقات ، باعتمال الحسنات ، وترك السيئات .

وفي حديث ابن عمرو ، يرفعه : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ، وهذا لفظ البخاري .

ولمسلم : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المسلمين خير؟ قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده» .

وعن أنس - رضي الله عنه ، قال : قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا وقال : «لا إيمان» ; أي : على وجه الكمال «لمن لا أمانة له» ; أي : في النفس والأهل والمال ، «ولا دين لمن لا عهد له» ; أي : على طريق اليقين بأن غدر في العهد واليمين .

قال في «المرقاة» : هذا الكلام وأمثاله وعيد لا يراد به الانقطاع ، بل الزجر ، ونفي الفضيلة دون الحقيقة . انتهى . رواه البيهقي في شعب الإيمان» .

قال في الترجمة : الظاهر أن المراد بالأمانة : معناها المتعارف; من حفظ الأموال والمجالس ، وترك الخيانة . وبالعهد : حفظ الإقرار ، وصدق الوعد .

ففي الإيمان والدين تغليظ وتشديد ، والمراد بهما : الدين والإيمان الكاملان .

[ ص: 120 ] وإن أريد بالأمانة : التكاليف الشرعية التي هي منطوقة في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة [الأحزاب : 72] ، وبالعهد : عهد الميثاق في يوم الثقة قال تعالى : ألست بربكم قالوا بلى [الأعراف : 172] ، فلا إشكال ، فإن ذلك يشمل تمام الدين والإيمان ، فروعا وأصولا .

وعلى هذا ، فالتكرير والتأكيد في الكلام للتحقيق والتقرير ، والله أعلم .

انتهى .

قلت : وعندي : الأول هو الأولى ، والثاني فيه بعد .

وعلى كل حال ، الحديث دال على أن حفظ الأمانة ، والوفاء بالعهد ، من صفات الإيمان ، وأن المحروم منهما محروم من حلاوة الإسلام ، ورفعها من علامات الساعة ، وأشراط القيامة ، كما في أحاديث أخرى .

وعن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثنتان موجبتان» ، قال رجل : يا رسول الله! ما الموجبتان؟ قال : «من مات يشرك بالله شيئا ، دخل النار ، ومن مات لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة» رواه مسلم .

تقدم شرح هذا الحديث في الحصة الأولى من هذا الكتاب ، وفيه دلالة على كون المشرك في النار ، وكون الموحد في الجنة على الإطلاق .

فتحصل من هذا : أن المشرك - وإن كان في أعلى رتبة من العبادة والطاعة ، والخيرات والحسنات - ، فعاقبته جهنم ، وضاع كل ما أتى به وجهد فيه كما قال تعالى :

عاملة ناصبة [الغاشية : 3] ، وأن الموحد - وإن كان عاصيا مرتكبا للكبائر - فعاقبته الجنة - إن شاء الله تعالى -; كما قال سبحانه : ويعفو عن كثير [الشورى : 30] ، وما أعظم هذه البشارة! اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا والآخرة .

وعن أبي أمامة : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان؟ قال : «إذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك ، فأنت مؤمن» .

[ ص: 121 ] أي : إيمانك صحيح; لأن هذه علامة وجود التصديق واليقين بالله وأحكامه ، وأمارة الإيمان باليوم الآخر وجزاء الأعمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية