الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2704 (30) ومن سورة التحريم

                                                                                              [ 2921 ] عن عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال : دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب ، قال عمر : فقلت : لأعلمن ذلك اليوم ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يا ابنة أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ما لي وما لك يا ابن الخطاب ، عليك بعيبتك ، قال : فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها : يا حفصة قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت أشد البكاء ، فقلت لها : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هو في خزانته في المشربة ، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة المشربة ، مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر ، فناديت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا ، قلت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا ، ثم رفعت صوتي فقلت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ، ورفعت صوتي ، فأومأ إلي أن ارقه ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست ، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق معلق ، قال : فابتدرت عيناي ، قال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قلت : يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك ، فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟ قلت : بلى ، قال : ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام ، إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن [ التحريم : 5 ] ، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير [ التحريم : 4 ]

                                                                                              وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله أطلقتهن ؟ قال : لا ، قلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ، وحتى كشر فضحك ، وكان من أحسن الناس ثغرا ، ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ، ما يمسه بيده ، فقلت : يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين ، قال : إن الشهر يكون تسعا وعشرين ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، ونزلت هذه الآية : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] فكنت أنا أستنبط ذلك الأمر ، فأنزل الله عز وجل آية التخيير .


                                                                                              رواه مسلم (1479) (30) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (30) ومن سورة التحريم

                                                                                              حديث ابن عباس هذا قد تقدم في الإيلاء ، لكن بطريق غير هذا ، وألفاظ تخالف هذا ; فلذلك كررناه في المختصر .

                                                                                              [ ص: 415 ] (قوله : فإذا الناس ينكتون بالحصى ) أي : يخطون بها في الأرض ، فعل المهتم بالشيء ، المتفكر فيه .

                                                                                              و (قولها : يا ابن الخطاب عليك بعيبتك ) أي : بخاصتك وأهل بيتك ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " الأنصار كرشي وعيبتي " . وقد تقدم . والمشربة : الغرفة ، تقال بفتح الراء وضمها ، والأسكفة بضم الهمزة والكاف : عتبة الباب السفلى . والنقير من الخشب ، وهو الذي ينقر فيه مثل الدرج ليرقى عليه .

                                                                                              و (قوله : يا رباح استأذن لي عندك ) أي : بحضرتك وقربك ، أي : لا تؤخره ، [ ص: 416 ] وسكوت رباح ونظره لعمر احترام لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكأنه كان يسمعه . والقرظ : شجر يدبغ به . والأفيق : الجلد قبل الدباغ . وابتدرت عيناي ، يعني : بالدموع . أي : غلبه البكاء فلم يملكه .

                                                                                              و (قوله : فإن طلقتهن فإن الله معك ) أي : بالمعونة على مرادك من الطلاق ، وعلى أن يبدلك خيرا منهن ، كما قال الله تعالى في الآية . ومعية الملائكة هي موافقتهم له على مراده ، ونصره على أضداده ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 417 ] و (قوله : قل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق الذي أقول ) قد شهد له بهذا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " .

                                                                                              و (قوله : فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ) أي : انكشف الغضب . وكشر : كشف عن أسنانه ليضحك ، فضحك ، وقد سبق القول على ما في هذا الحديث مما يحتاج إلى التنبيه عليه في النكاح والإيلاء .

                                                                                              [ ص: 418 ] و (قوله : ونزلت هذه الآية : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به [ النساء : 83 ] ) . ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذه القضية لأجل استنباط عمر - رضي الله عنه - ما استنبط فيما وقع له فيها ووافقه الله تعالى على ما وقع له ، فأنزل القرآن على نحو ذلك . والاستنباط : الاستخراج ، وقد تقدم . وأذاعوا به : أفشوه ، يقال : ذاع الحديث يذيع ذيعا وذيوعا ، أي : انتشر ، وأذاعه غيره : إذا أفشاه ، ويقال : ذاع به ، بمعناه . وأولو الأمر : العلماء في قول قتادة وغيره . وفي الآية من الفقه وجوب الرجوع إلى أقوال العلماء على من لا يحسن فهم الأحكام واستنباطها . قال الحسن : هي في الضعفاء أمروا أن يستخرجوا العلم من الفقهاء والعلماء . وقال قتادة : نزلت هذه الآية في المنافقين ، كانوا يشيعون ما يهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن من أراد تأمينه ، وإغزاء من أراد غزوه ; إرادة الإفساد .




                                                                                              الخدمات العلمية