الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ونذكر في الأحكاميات وغيرها آيات أخر :

منها قوله : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب .

[ ص: 201 ] أنت تجد في هذه الآية من الحكمة والتصرف العجيب ، والنظم البارع الغريب ، ما يدلك - إن شئت - على الإعجاز ، مع هذا الاختيار والإيجاز ، فكيف إذا بلغ ذلك آيات ، أو كانت سورة ؟

ونحو هذه الآية قوله : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .

وكالآية التي بعدها في التوحيد وإثبات النبوة ، وكالآيات الثلاث في المواريث .

أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام ؟ ثم كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم ؟

وإن جئت إلى آيات الاحتجاج ، كقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

وكالآيات في التوحيد ، كقوله : هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين .

وكقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا .

وكقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، إلى آخرها .

وكقوله : والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا [ ص: 202 ] إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب .

هذه من الآيات التي قال فيها الله - تعالى ذكره - : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد .

ارفع طرف قلبك ، وانظر بعين عقلك ، وراجع جلية بصيرتك ، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك ، وعرضناه عليك ، ثم فيما ينتظم من الكلمات ، ثم إلى أن يتكامل فصلا وقصة ، أو يتم حديثا وسورة .

لا ، بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب ، وتدبره على نحو هذا التنزيل ، فلم ندع ما ادعيناه لبعضه ، ولم نصف ما وصفنا إلا في كله ، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر ، والآية أكشف وأبهر .

وإذا تأملت على ما هديناك إليه ، ووقفناك عليه ، فانظر هل تجد وقع هذا النور في قلبك ، واشتماله على لبك ، وسريانه في حسك ، ونفوذه في عروقك ، وامتلاءك به إيقانا وإحاطة ، واهتداءك به إيمانا وبصيرة ؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه ، والهزة تعمل في جوانبك من لون ، والأريحية تستولي عليك من باب ؟

وهل تجد الطرب يستفزك للطيف ما فطنت له ، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه ، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك - عزة ، وفي أعطافك ارتياحا وهزة ، وترى لك في الفضل تقدما وتبريزا ، وفي اليقين سبقا وتحقيقا ، وترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة ، ومهاويهم [ ص: 203 ] في ظلال القلة والذلة ، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها ، ومراتبهم بحيث يجب أن ترتبها ؟

هذا كله في تأمل الكلام ونظامه ، وعجيب معانيه وأحكامه .

فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته وأنواره ، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه ، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه ، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه ، ومضى في الدماء من مفروض حكمه ، وإلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد ، وثانية التوحيد في الوجوب . وفرض حفظه ، ووكل الصغار والكبار بتلاوته ، وأمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه ، من قوله : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه ، فهل يدلك هذا على عظيم شأنه ، وراجح ميزانه ، وعالي مكانه .

وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد ، وتمييزه صعب .

ومما كتب إلي الحسن بن عبد الله العسكري : قال : أخبرني أبو بكر ابن دريد قال : سمعت أبا حاتم يقول : سمعت الأصمعي يقول : فرسان الشعر أقل من فرسان الحرب .

وقال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : العلماء بالشعر أعز من الكبريت الأحمر .

وإذا كان الكلام المتعارف المتداول بين الناس ، يشق تمييزه ، ويصعب نقده ، ويذهب عن محاسنه الكثير ، وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن ، وكثير من حسنه بعين القبح ، ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافا كثيرا ، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه - فكيف لا يتحيرون فيما لا يحيط به علمهم ، ولا يتأتى في مقدورهم ، ولا يمثل بخواطرهم ؟ وقد حير القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم . [ ص: 204 ] ولا أتم بلاغة ، ولا أحسن براعة ، حتى دهشوا حين ورد عليهم ، وولهت عقولهم ، ولم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال ، والتخرص عليه ، والتوهم فيه ، وتقسيمه أقساما ، وجعله عضين .

وكيف لا يكون أحسن الكلام ، وقد قال الله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد .

استغنم فهم هذه الآية ، وكفاك ، استفد علم هذه الكلمات ، وقد أغناك ، فليس يوقف على حسن الكلام بطوله ، ولا تعرف براعته بكثرة فصوله ، إن القليل يدل على الكثير ، والقريب قد يهجم بك على البعيد .

ثم إنه - سبحانه وتعالى - لما علم من عظم شأن هذه المعرفة ، وكبر محلها ، وذهابها على أقوام - ذكر في آخر هذه الآية ما ذكر ، وبين ما بين ، فقال : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . فلا تعلم ما وصفنا لك إلا بهداية من العزيز الحميد ، وقال : ومن يضلل الله فما له من هاد ، وقال : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا .

وقد بسطنا لك القول رجاء إفهامك .

وهذا " المنهاج " الذي رأيته ، إن سلكته ، يأخذ بيدك ، ويدلك على رشدك ، ويغنيك عن ذكر براعة آية آية لك .

واعلم أنا لم نقصد فيما سطرناه من الآيات ، وسميناه من السور والدلالات ، ذكر الأحسن والأكشف والأظهر ؛ لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها أو أضربنا عن ذكرها اعتقادا واحدا في الدلالة على الإعجاز ، والكفاية في التمنع والبرهان . ولكن لم يكن بد من ذكر بعض ، فذكرنا ما تيسر ، وقلنا فيما اتجه [ ص: 205 ] في الحال وخطر ، وإن كنا نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر ؛ وفي بعضه أدق وأغمض . والكلام في هذا الفصل يجيء بعد هذا .

فاحفظ عنا في الجملة ما كررنا ، والسير بعد ذلك في التفصيل إليك ؛ وحصل ما أعطيناك من العلامة ، ثم النظر عليك .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية