الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا قال الأستاذ الإمام : أي أن الشيطان ـ الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان ـ يريد أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فيكون ضلالهم عنه مستمرا ؛ لأنهم لشدة بعدهم عنه لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه .

                          قيل له : فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين ؟ قال : تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فإذا كنا قد تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها ، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ، ومنها المخالف لها ؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم إلى هذه القوانين ، فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه ، أي : في أهله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ( 16 : 106 ) ، الآية ، وانظر إلى ما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعبادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات فهل نرجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله ؟ إذا تنازع عالمان منا في مسألة ، فهل يردانها إلى الله ورسوله أم يردانها إلى قيل وقال ؟ فهذا يقول : قال الحمل ، وهذا يقول : قال الصاوي ، وفلان وفلان ، انتهى ما كتبه عنه في الدرس وكتبت في آخره يومئذ " يحرر الموضوع " ومراده ظاهر ، فإنه يقول : إنه لا قول لأحد في قضية أو مسألة مع وجود نص فيها مما أنزله الله تعالى على رسوله ، أو ما قضى به ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإذن الله عز وجل ، والمسلمون قد تركوا ما جرى عليه السلف من النظر في كل قضية في كتاب الله أولا ، ثم في سنة رسوله وفي رد المتنازع فيه إليهما ، بل عملوا بآراء الناس الذين ينتمون إليهم ، ويسمونهم علماء مذاهبهم ، وإن وجد نص الكتاب أو السنة مخالفا له ، ويحرمون الرجوع إلى هذه النصوص ؛ لأن ذلك من الاجتهاد الممنوع عندهم الذي يعد المتصدي له ضالا مضلا في نظرهم ، وقد ترتب على هذا الذنب الذي هو اجتناب تقديم الكتاب والسنة على كل قول ورأي أن سلس المسلمون لحكامهم في مثل مصر ، حتى انتقلوا بهم من الحكم يقول فلان وفلان من الذين يسمونهم أهل الفقه ويأخذون بما في كتبهم ابتداء ـ وافق [ ص: 184 ] نصوص الكتاب والسنة ، أم خالفها ـ إلى الحكم بقول فلان وفلان من واضعي القوانين ، ولم يكن المتحاكمون إلى رجال القانون أسوأ حالا من المتحاكمين إلى أقوال الفقهاء ، وهم الآن أقدر على تحكيم الكتاب والسنة في عباداتهم ومعاملاتهم فيما بينهم ، وفي محاكمهم الشرعية منهم على تحكيمها في المعاملات المدنية والعقوبات ; لأنهم في هذا تحت سيطرة الأجانب الأقوياء ، وأما في ذاك فليسوا تحت سيطرة أجنبية ، فإذا أراد علماؤهم وأهل الرأي والمكانة فيهم ذلك نفذ ، ولكنهم لا يريدون والذين يضعون هذه القوانين المصرية يوافقون في أكثرها الشرع ويبنون رأيهم على المصلحة العامة بحسب ما يصل إليه علمهم ، ولكنهم لا يلصقون رأيهم بالشرع كالفقهاء ، ومراعاة المصلحة من مقاصد الشرع في المنصوص وفي الموكول إلى الرأي ، والناس يقبلون آراء المنسوبين إلى الفقه ، ولو فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة ; لأنهم يلصقونها بالشرع من حيث يدعون أنها اجتهاد صحيح مبني على أصوله ، ولكن لا اجتهاد مع النص ، وربما كان العامل بالرأي ـ لا يسميه دينا ـ أقل جناية على الشرع ممن يعمل بالرأي يسميه دينا ، ولا سيما مع وجود النص .

                          وجملة القول : أنه ما كان للمسلمين أن يقبلوا قول أحد ، أو يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثابتة ، إلا فيما رخص الله تعالى فيه من أحكام الضرورات والحاجات ، وما لا حكم فيهما فالعمل فيه برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه أولى من العمل دائما برأي بعض المؤلفين لكتب الفقه في القرون الخالية ; لأنه أقرب إلى المصلحة ، هذا هو ما كان يريده رحمه الله تعالى في العبارة التي قالها في درسه بالأزهر ، وما كان يعتقده ، نعم إن من يضعون الأحكام لما لا نص فيه يشترط في الإسلام أن يكونوا عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة ، وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيه إليها ، والأستاذ الإمام يقول بهذا أيضا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية