الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ، أي ولو أن أولئك الذين رغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت عند ظلمهم لأنفسهم بذلك جاءوك فاستغفروا الله ، من ذنبهم وندموا أن اقترفوه وحسنت توبتهم واستغفر لهم الرسول ، أي دعا الله أن يغفره لهم لوجدوا الله توابا رحيما أي لتقبل الله توبتهم على هذا الوجه أتم القبول وأكمله ، وتغمدهم برحمته ، وغمرهم بإحسانه ; لأنه تعالى يقبل التوبة النصوح كثيرا مهما عاد صاحبها ، ورحمته وسعت كل شيء .

                          هذا هو معنى صيغة المبالغة في تواب رحيم ، وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ; لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلما لأنفسهم فقط لم يتعد شيء منه إلى الرسول فيكفي فيه توبتهم ، بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنه رسول له وحده الحق في الحكم بين المؤمنين به ، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا ذلك للرسول ؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه ، ويدعو الله تعالى أن يغفر لهم إعراضهم عن حكمه ، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع الضمير إذ قال : واستغفر لهم الرسول ، ولم يقل : " واستغفرت لهم " ، فإن حقه عليهم أن يتحاكموا إليه إنما كان له بأنه رسول الله وأنه مأمور بأن يحكم بين الناس بما أراه الله في وحيه وما هداه إليه في اجتهاده ، ولو أنهم اعتدوا في معصيتهم على حقوقه الشخصية كأكل شيء من ماله بغير حق لقال : واستغفرت لهم ، فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة إلا بعد استرضاء صاحب الحق ، وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر موضع الضمير إجلال منصب الرسالة والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا المنصب الشريف وعدم رد شفاعته ، والظاهر ما قلناه والمنصب هو هو في شرفه وعلوه ، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا وإن استغفر لهم الرسول ; لأن الله تعالى قال له فيهم : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( 9 : 80 ) ، والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتما إذا كملت شرائطها ، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل الشرط ، والعطف بالفاء وهو بمعنى ثم يتوبون من قريب ( 4 : 17 ) ، وتقدم تفسيره .

                          وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس أي إفسادا لمصلحتها ؛ لأن الرسول هاد إلى مصالح الناس في دنياهم وآخرتهم ، وهذا الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك ، والاستغفار هو الإقبال على الله ، وعزم التائب على اجتناب الذنب ، وعدم العود إليه مع الصدق والإخلاص في ذلك ، وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي فليس استغفارا حقيقيا .

                          [ ص: 191 ] أقول : يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ : " أستغفر الله " لا يعد طلبا للمغفرة ؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب ، فلا بد أن يشعر القلب أولا بألم المعصية وسوء مغبتها ، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها ، ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس ، وهو المعصية ، وكيف يكون متألما من القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له إذا طلب غسله باللسان ، وهو لا يترك الالتياث به ولا يدنو من الماء ؟

                          وقال في استغفار الرسول : إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض في الدعاء مسنونة ، وأن من سنته تعالى أن يتقبل من الجماعة بأسرع مما يتقبل من الواحد ، فدعاء الجماعة أرجى للإجابة إن كان كل داع موعودا بالاستجابة ، وحقيقة الدعاء : إظهار العبودية والخضوع له تعالى ، والإجابة التي وعد بها : هي الإثابة وحسن الجزاء ، فمتى أخلص الداعي أجاب الله دعاءه سواء كان بإعطائه ما طلب أو بغير ذلك من الأجر والثواب ، وإنما كانت المشاركة في الداء أرجى للقبول ؛ لأن الداعين الكثيرين لشخص يؤدون هذه العبادة بسببه ، أي أن ذنبه يكون هو السبب في شعورهم وإحساسهم كلهم بالحاجة إلى الله تعالى والخضوع له والاتحاد المرضي عنده ، فكأن حاجته حاجتهم كلهم ، فإذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الداعي والمستغفر لأولئك التائبين من ظلمهم لأنفسهم مع استغفارهم هم ، فذلك من اشتراك قلبه الشريف مع قلوبهم بالحاجة إلى تطهير الله لهم من دنس الذنب وطلب النجاة من عقوبته ، وناهيك بقرب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه والرجاء في استجابة دعائه .

                          وأما اشتراط استغفار الرسول إلى استغفارهم ، فمعناه أن توبتهم لا تتحقق إلا إذا رضي عن توبتهم رضا كاملا ، بحيث يشعر قلبه الرحيم بالمؤمنين بحاجتهم إلى المغفرة لصحة توبتهم وإخلاصهم ، فذنبهم ذلك لا يغفر إلا بضم استغفاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى استغفارهم ، وليس كل ذنب كذلك ، بل يكتفى في سائر الذنوب بتوبة العبد المذنب حيث كان ، والإخلاص لله تعالى اهـ .

                          أقول : وقد بينا الفرق بين هذا الذنب وغيره من الذنوب ، ومنه يعلم بعد من قاس كل ذنب على ذنب الرغبة عن التحاكم إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيثار التحاكم إلى الطاغوت ، وقاس كل مذنب بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على من أعرض عن حكمه في حياته ، فجعل مجيء كل مذنب إلى قبره الشريف واستغفاره عنده كمجيء من أعرضوا عن حكمه في حياته تائبين مستغفرين ليعفو عن حقه عليهم ويستغفر لهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية