الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( واختلف قوله في اللحمان فقال في أحد القولين : هي أجناس ، وهو قول المزني وهو الصحيح ، لأنها فروع لأصول هي أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأدهان ( والثاني ) أنها جنس واحد لأنها تشترك في الاسم الخاص في أول دخولها في تحريم الربا ، فكانت جنسا واحدا كالتمور ، وتخالف الأدقة والأدهان لأن أصولها أجناس يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا ، فاعتبر فروعها بها ، واللحمان لا يحرم الربا في أصولها فاعتبرت بنفسها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) القولان في اللحم مشهوران منصوص عليهما ، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : اللحم كله صنف ، وحشيه وإنسيه وطائره ، لا يحل فيه البيع حتى يكون يابسا وزنا بوزن ، ونسب الماوردي هذا إلى القديم ، وقد رأيت اللفظ المذكور في المختصر في الأم في باب الرطب بالتمر ، ولكن في آخره كلام متناقض لم يتبين لي الجمع بينهما ، وتوهمت أنه غلط من ناسخ ، فرأيته في أكثر من نسخة ، ونسب الماوردي القول بأنها أجناس إلى الجديد .

                                      [ ص: 175 ] وقال في الأم في باب بيع اللحم : والقول في اللحمان المختلفة واحد من قولين ( أحدهما ) أن لحم الغنم صنف ، ولحم الإبل صنف ، ولحم البقر صنف ، ولحم الظباء ولحم كل ما تفرقت به أسماء دون الأسماء الجامعة صنف . فيقال كله حيوان وكله دواب وكله من بهيمة الأنعام ، فهذا جماع أسمائه كله ، ثم يعرف أسماؤه فيقال : لحم غنم ولحم بقر ولحم إبل ، ويقال : لحم ظباء ، ولحم أرانب ، ولحم يرابيع ، ولحم ضباع ، ولحم ثعالب ثم يقال في الطير هكذا : لحم كراكي ، ولحم حباريات ، ولحم حجل ، ولحم معاقب ، كما يقال : طعام . ثم يقال : حنطة وذرة وشعير ، وهذا قول يصح وينقاس . وأطال الشافعي في التفريع على هذا القول نحو ورقة ثم قال : الثاني في هذا الوجه أن يقال : اللحم كله صنف ، كالتمر كله صنف ، ومن قال هذا لزمه عندي أن يقوله في الحيتان لأن اسم اللحم جامع لهذا القول . ومن ذهب هذا المذهب لزمه إذا أخذه بجامع اللحم أن يقول : هذا الجامع مع التمر يجعل الزبيب والتمر وغيره من الثمار صنفا . وهذا ما لا يجوز لأحد أن يقوله عندي . فاقتضى كلام الشافعي رضي الله عنه هذا الرد على من يقول بأنها من جنس واحد وإلزامه بأن يقول : إن الزبيب والتمر جنس واحد لاشتراكهما في اسم جامع وهذا ينبهك على أن اسم اللحم اسم عام لا خاص .

                                      وكلام الأصحاب كالشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب والمصنف وغيرهم يقتضي أن اسم اللحم خاص . ثم يقررون بعد ذلك أنها أجناس بما سنذكره . وتحقيق ذلك يئول إلى بحث لفظي . فإنه إن أريد بالخاص ما لم يوضع لما تحته من أنواعه اسم بخصوصها ، فاسم اللحم على هذا خاص وما تحته من لحم البقر والغنم شبيه بالمعقلي والبرني إذ ليس لكل منهما اسم يخصه ، وإن أريد به أن يكون ثم أسماء صادقة على ذلك الشيء ، ويكون هو أخصها كالحب والحنطة فاسم اللحم على هذا ليس بخاص وأن اسم البقر والحيوان والدواب وبهيمة الأنعام لا يصدق شيء منها على اللحم حالة كونه لحما . على أن تقسيم الشافعي الذي قدمته آنفا يشعر بخلاف ذلك . فينبغي تأويله عليه حتى يجري كلامه هنا وفي الأدهان على نمط واحد ، فإنه جعل [ ص: 176 ] الأدهان مما لا يوضع لها اسم خاص ، وهي بمنزلة اللحم في ذلك ، لأنه لا يصدق عليها حالة كونها دهنا اسم ما استخرجت منه ، بل تذكر مضافة إليه كما يذكر اللحم مضافا إلى الحيوان الذي هو منه فإن جعلنا اسم اللحم ليس بخاص سهل النظر في المسألة وإثبات أنها أجناس ، وإن جلعناه خاصا فقد وجه الأصحاب ذلك بما ذكره المصنف وينبغي أن يتأمل قول المصنف فيما تقدم في زيت الزيتون وزيت الفجل أنهما فرعان لجنسين مختلفين وقوله هنا : إنها فروع لأصول هي أجناس ، فلم يقل : فروع لأجناس كما قال ، ولا قال : مختلفة ، والحكمة في ذلك أن كون الزيتون والفجل جنسين لا شبهة فيه ، وذلك معلوم من أحكام الربا فيهما .

                                      وأما كون الحيوانات أجناسا فتحتاج إلى دليل لعدم جريان الربا ، فمن أين لنا أنها أجناس ؟ أو جنس واحد ؟ فلذلك جعل الوصف المشترك في صدر كلامه أنها فروع لأصول ، وهذا لا يمكن منعه . ثم قال : هي أجناس ، وهذا في حكم الدعوى ، والدليل عليه أن الإبل والغنم لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة ، فدل على أنها أجناس مختلفة ، كذلك استدل له القاضي أبو الطيب ، ولما كان زيت الزيتون وزيت الفجل يشتركان في اسم الزيت الذي هو أخص من الدهن . وذلك يوهم اتحادهما احتاج أن يوضح التباين في أصولهما بقوله : مختلفين . واللحمان كلها إنما تتميز بالإضافة كبقية الأدهان . مما ليس له اسم يخصه اعتنى بإثبات أن أصولها أجناس . ولم يحتج إلى زيادة لفظ الاختلاف . فهذا هو القول وهذا من الشافعي رحمه الله قطع بأن اللحمان أصناف وقد قطع قبل هذا الباب بأن ألبان الغنم والبقر والإبل أصناف مختلفة . فلحومها التي هي أصل الألبان بالاختلاف أولى . وقال ابن الرفعة : ومن هنا نسب الأصحاب إلى المزني اختيار القول بأنها أجناس وأن كلام المزني يقتضي اختيار القطع به ولم يصر إليه أحد من الأصحاب لأجل أن ما تمسك به في مأخذه غير خال عن احتمال . فإن الاشتراك في اسم خاص كالتمر والبر ، واشتراك التمر والزبيب في اسم عام وهو الثمرة ، وبه ينقطع الإلزام ( قلت ) وسيأتي من كلام القاضي حسين ما يقتضي حكاية طريقة قاطعة والله أعلم .

                                      [ ص: 177 ] والقول الثاني ) أنها جنس واحد لما ذكره المصنف ( وقوله ) في الاسم الخاص احتراز من البر والشعير والرطب والعنب فإنهما يشتركان في اسم عام كالحب والثمرة ( وقوله ) في أول دخولها في تحريم الربا احتراز من الأدقة . قال القاضي أبو الطيب : لأنها أجناس منع اشتراكهما في الاسم الخاص وهو الدقيق إلا أنها ليست أول حال الربا . لأن الربا يجري في حباتها ولا يشترك في الاسم الخاص . وقياسه على التمور ; قال القاضي : إن أصحابنا يقيسون على التمر وهو ليس بصحيح لأن الربا يسبق كونه رطبا وبسرا وتمرا وخلا . ولأن الطلع مطعوم يجري فيه الربا . وهو أول حاليه فوجب بأن يقاس على الطلع فإن الاسم الخاص وهو الطلع يجمع الجميع وتابعه على ذلك صاحب الشامل وما قاله القاضي فيه نظر ، فإن الطلع اسم لطلع النخلة قبل صيرورته بلحا أو بسرا ( وأما ) إطلاقه على البسر والرطب والتمر فمن باب المجاز لأنه كان كذلك فلم يتجه قول القاضي أنه اسم يجمع الجميع ، وإذا كان كذلك ، فلا يصح القياس عليه لأنه ليس هناك أشياء تشترك فيه ، وإن كان أول دخول الربا ، فلا جرم والله أعلم .

                                      لم يعتمد المصنف ما قاله القاضي أبو الطيب في هذا الموضع مع كونه شيخه ومعتمده واعتمد ما قاله الأصحاب .

                                      ( وأما ) الإشكال الذي أورده القاضي فجوابه أن أنواع التمر مشتركة في اسم خاص في جميع أحوالها من أول دخولها في الربا ، يكون كل منها طلع ثم يصير بسرا أو رطبا ثم يصير تمرا ، وفي كل حالة من أحواله الثلاث يصدق ذلك الاسم على كل من الأنواع المعقلي والبرني وغيرهما . وذلك الاسم خاص فصح أن أنواع التمور تشترك من أول دخولها في تحريم الربا إلى آخرها في اسم خاص ، هو : إما طلع وإما رطب وإما تمر . فإن ثلاثتها أنواع للثمرة وليس المراد أنها من أول دخولها في الربا تشترك في اسم التمر فافهم ذلك فإني لم أره لغيري وهو مما فتح الله تعالى به وبذلك يحسن الاحتراز بهذا القيد عن الأدهان والأدقة فإن دقيق القمح ودقيق الشعير مثلا إنما يشتركان في الاسم الخاص حين صارا دقيقا وقبل ذلك كان هذا قمحا وهذا شعيرا ليس بينهما اشتراك في اسم خاص لا دقيق ولا قمح ولا شعير وإنما يشتركان في اسم الحب والله أعلم .

                                      [ ص: 178 ] ثم بعد ذلك رأيت هذا الذي ظهر لي بعينه ذكره القاضي أبو الطيب في مسألة الألبان فرحمه الله تعالى ورضي عنه . وبعد أن حرر القاضي أبو الطيب القياس على الطلع على ما ارتضاه ، أجاب عنه بأن الطلع إنما اعتبر اشتراكه في الاسم الخاص ، لأن أصوله لم يثبت لها حكم الأصناف فكان الاعتبار بنفسه ، وليس كذلك اللحوم ، فإن أصولها أصناف ، فكان الاعتبار بأصولها ، كما نقول في الأدقة والأدهان . وذكر القاضي حسين لما تكلم في الألبان أن في اللحمان طريقين ولم يبينهما . ولعل في ذلك طريقة قاطعة بأنها أجناس ، وأن من أصحابنا من قال : إنها كاللحمان ومنهم من قال : الألبان أجناس قولا واحدا . وقول المصنف : ويخالف الأدقة والأدهان إلخ مقصوده بذلك الفرق بينهما وبين اللحمان .

                                      ( فإن قلت ) كيف تحرير هذا الفرق ؟ فإن الفرق أبدى معنى في إحدى الصورتين مفقودا في الأخرى ، والمعنى الذي أبداه في الأدقة والأدهان كون أصولها أجناسا يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا ، ونحو ذلك ليس مفقودا في أصول اللحمان حتى يضم إليه تحريم النساء ، فليس بين الوصفين اللذين ذكرهما وهما جواز التفاضل وعدم حرمة الربا تضاد ، فكانت المقابلة الظاهرة أن يقال : لأن أصول الأدقة والأدهان ربوية بخلاف أصول اللحمان . هكذا صنع الشيخ أبو حامد .

                                      ( قلت ) لما كان حكم الربا في الأصول المذكورة معلوما سكت عنه ، وجعل المعنى المقصود أنه في ذلك المحل ثبت لها حكم الأجناس المختلفة في الربا ولهذا صرح بجواز التفاضل ، فإنه أثر اختلاف الجنس فيها ، فلما كان اختلاف الجنس معتبرا فيها اعتبر في فروعها بخلاف أصول اللحمان فإنها وإن كانت أجناسا إلا أن اختلاف الجنس ليس معتبرا فيها في الربا ; لأنه لا ربا فيها ، فنبه باختلاف الجنس في الأدقة والأدهان على المعنى الموجب لاختلاف الفروع ، والمراد كونه في محل ربوي ، ونبه بقوله : لا يحرم الربا في أصول اللحمان على عدم ذلك المعنى فيها ، لأنه متى لم تكن ربوية لا يصح أنه يثبت لها حكم الأجناس المختلفة في الربا ضرورة ، فكأنه نفى الوصف المذكور بدليله ; والمقصود أن اللحمان لا تعتبر في أصولها في كونها أجناسا [ ص: 179 ] بخلاف الأدقة حيث اعتبرت بأصولها في ذلك ، وليس المقصود اعتبار كل منهما بأصله في كونه ربويا أو غير ربوي ; إذ كل من الفرعين ربوي قطعا ، فثبوت حكم الربا أمر معلوم . والفرق راجع إلى أن أصول الأدقة والأدهان يثبت لها حكم الأجناس المختلفة في الربا ، بخلاف أصول اللحمان لم يثبت لها ذلك لأنه لا ربا فيها ، وقد أجاب القاضي أبو الطيب عن هذا الفرق بأن أصول اللحمان ثبت لها حكم الأجناس المختلفة في الزكاة ، ولا فرق بين الزكاة والربا ، فإن حكم الصنف الواحد والأصناف فيها سواء ألا ترى أن الحنطة لا تضم إلى الشعير في الزكاة ؟ ويكونان صنفين مختلفين ، وكذلك في الربا ، فلا فرق بينهما فقد تبين إلغاء الفرق .

                                      ( والجواب ) عن القياس الذي استدل به لكونها جنسا أن جعل الأصل المقيس عليه الطلع فقد تقدم جواب القاضي أبي الطيب عنه ، وأن جعل القياس على التمور كما فعله المصنف وأكثر الأصحاب ، فكذلك لأن المعقلي والبرني أصل كل منها ليس جنسا مخالفا لأصل الآخر . لأن أصلها التمر والرطب والطلع ، وهو شيء واحد في جميع الأحوال كما تقدم التنبيه عليه ، فليس له أصول مختلفة ، فلذلك اعتبر بنفسه ، بخلاف اللحمان ، فإن لها أصولا مختلفة ، كل منها صنف مستقل فاعتبر به ، فقد تحرر المذهب نقلا ودليلا أن اللحمان أجناس ، وهو الذي صححه كثير من الأصحاب . وممن صرح به القاضي أبو الطيب ، والمصنف وصاحب البيان والشاشي في الحلية والرافعي . وقال المحاملي في مسألة الألبان : إنه القياس ، ونسبه الماوردي إلى الجديد وأكثر كتبه ، وخالف القاضي حسين فقال : الصحيح أنها جنس واحد وكذلك المزني فيما حكاه ابن الرفعة عنه ، وقد اعترض المصنف في التنبيه على الدليل الذي ذكره هنا لكونها أجناسا فقال : لا تأثير للوصف ، فإن الثياب الهروية والمروية عندهم أجناس ، وإن كانت فروعا لجنس واحد هذا يسمى بعدم التأثر . ومعناه أن لا يعدم الحكم لعدم العلة .

                                      وقد [ ص: 180 ] تتعجب من المصنف لكونه استدل للقول الثاني ، وأجاب عن دليله الأول وسكت على ذلك ، مع كونه صرح بتصحيح القول الأول ولا عجب ، والسبب الداعي لذلك أن القول الثاني - وإن كان ضعيفا في المذهب - فهو مقصور في الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة فإن مذهبه كالصحيح عندنا ، والمسألة مذكورة في الخلافيات ، وممن ذكرها المصنف ، وقد اعترض ابن معن صاحب التنقيب على المهذب فقال : قوله مشترك في الاسم الخاص في أول دخولها في الربا فيه خلل ، لأن ثبوت الجنسية وعدمها لا يتلقى من تحريم الربا وإنما تحريم الربا ينبني على ثبوت الجنسية وعدمها ، وإذا كانت أصولها أجناسا في أصل خلقتها كانت أجناسا إذا دخلت في تحريم الربا . وهذا الاعتراض يظهر جوابه مما تقدم ، واللحمان - بضم اللام - وهل هو جمع أو اسم جمع ؟ كلام ابن سيده في المحكم يقتضي أنه جمع ، فإنه قال : اللحم واللحم لغتان ، والجمع ألحم ولحوم ولحام ولحمان . فرع في ذكر مذاهب العلماء في المسألة وقد تقدم ذكر مذهبنا ، ومذهب أبي حنيفة أنها أجناس كالصحيح ، وكذلك الأصح من مذهب أحمد ونقل ابن الصباغ عن أحمد أن المشهور عنه أنها جنس واحد ، وفصلت المالكية فقالوا : لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحش صنف ، ولحوم الطير كله صنف ، ولحوم ذوات الماء كلها صنف ، فهي عندهم ثلاثة أصناف ، وعند الحنابلة رواية قريبة من ذلك . واعتبر المالكية في ذلك تقارب المنفعة والرجوع إلى العادة ، فعلى قول مالك رحمه الله : الإبل والبقر والغنم والوحوش كلها صنف واحد ، لا يجوز من لحومها واحد باثنين ، والطير كلها صنف إنسيها ووحشيها ، لا يصلح من لحمها اثنان بواحد ، والحيتان كلها صنف واحد ، ولا بأس بلحم الحيتان بلحم البقرة متفاضلا . وقال أبو ثور : إنها كلها جنس واحد كأحد قولي الشافعي




                                      الخدمات العلمية