الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مسير الحسين إلى الكوفة

قيل لما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له : إني أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك ، فإن كنت ترى أنك مستنصحي قلتها وأديت ما علي من الحق فيها ، وإن ظننت أنك لا مستنصحي كففت عما أريد .

فقال له : قل ، فوالله ما أستغشك وما أظنك بشيء من الهوى . قال له : قد بلغني أنك تريد العراق ، وإني مشفق عليك ، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال ، وإنما الناس عبيد الدنيا والدرهم ، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه .

فقال له الحسين : جزاك الله خيرا يا ابن عم ، فقد علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل ، ومهما يقض من أمر يكن ، أخذت برأيك أو تركته ، فأنت عندي أحمد مشير ، وأنصح ناصح .

قال : وأتاه عبد الله بن عباس فقال له : قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق ، فبين لي ما أنت صانع ؟ فقال له : قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى .

فقال له ابن عباس : فإني أعيذك بالله من ذلك ، خبرني ، رحمك الله ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم ؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى

[ ص: 148 ] الحرب ، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك . فقال الحسين : فإني أستخير الله وأنظر ما يكون .

فخرج ابن عباس وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال : ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم ، خبرني ما تريد أن تصنع ؟ فقال الحسين : لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة ، ولقد كتبت إلي شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير الله .

فقال له ابن الزبير : أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها .

ثم خشي أن يتهمه فقال له : أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك .

فقال له الحسين : إن أبي حدثني أن لها كبشا به تستحل حرمتها ، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش .

قال : فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى .

قال : ولا أريد هذا أيضا

ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا ، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ندري ، جعلنا الله فداك ! قال : إنه يقول : أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس ، ثم قال له الحسين : والله لئن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها ، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجا منها بشبر ، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم ! والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت :

فقام ابن الزبير فخرج من عنده .

فقال الحسين : إن هذا ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز ، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له .

قال : فلما كان من العشي أو من الغد أتاه ابن عباس فقال : يا ابن عم ، إني أتصبر ولا أصبر ، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم ، أقم في هذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم ، فإن أبيت [ ص: 149 ] إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا ، وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاءك ، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية .

فقال له الحسين : يا ابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق ، وقد أزمعت وأجمعت المسير .

فقال له ابن عباس : فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه .

ثم قال له ابن عباس : لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك من الحجاز وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك ، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت ، لفعلت ذلك .

ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بابن الزبير فقال : قرت عينك يا ابن الزبير ! ثم أنشد قائلا :


يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز .

قيل : وكان الحسين يقول : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم المرأة .

قال : والفرم خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت .

ثم خرج الحسين يوم التروية ، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص ، وهو أمير على الحجاز ليزيد بن معاوية مع أخيه يحيى ، يمنعونه ، فأبى عليهم ومضى ، وتضاربوا بالسياط ، وامتنع الحسين وأصحابه وساروا فمروا بالتنعيم ، فرأى بها عيرا قد أقبلت من اليمن بعث بها بحير بن ريسان من اليمن إلى يزيد بن معاوية ، وكان عامله على اليمن ، وعلى العير الورس والحلل ، فأخذها الحسين وقال لأصحاب الإبل : من أحب [ ص: 150 ] منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته ، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء ، فمن فارق منهم أعطاه حقه ، ومن سار معه أعطاه كراءه وكساه .

ثم سار ، فلما انتهى إلى الصفاح لقيه الفرزدق الشاعر فقال له :

أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب .

فقال له الحسين : بين لي خبر الناس خلفك .

قال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أمية ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . فقال الحسين : صدقت ، لله الأمر يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته ، والتقوى سريرته .

قال : وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد ، وفيه : أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي ، والسلام .

وقيل : وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد فقال له : اكتب للحسين كتابا تجعل له الأمان فيه وتمنيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع .

وكان عمرو عامل يزيد على مكة ، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه يحيى بن سعيد ومع عبد الله بن جعفر ، فلحقاه وقرآ عليه الكتاب وجهدا أن يرجع ، فلم يفعل ، وكان مما اعتذر به إليهما أن قال : إني رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرت فيها بأمر أنا ماض له ، علي كان أو لي .

فقالا : ما تلك الرؤيا ؟ قال : ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا حتى ألقى ربي .

ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن نمير التميمي

[ ص: 151 ] صاحب شرطته فنزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع . فلما بلغ الحسين الحاجز كتب إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يعرفهم قدومه ويأمرهم بالجد في أمرهم ، فلما انتهى قيس إلى القادسية أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد ، فقال له ابن زياد : اصعد القصر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي .

فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ، ثم لعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي .

فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات .

ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب ، فإذا عليه عبد الله بن مطيع ، فلما رآه قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ! ما أقدمك ؟ فاحتمله فأنزله ، فأخبره الحسين ، فقال له عبد الله : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا ، والله إنها لحرمة الإسلام [ تنتهك ] وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية ! فأبى إلا أن يمضي .

وكان زهير بن القين البجلي قد حج ، وكان عثمانيا ، فلما عاد جمعهما الطريق ، وكان يساير الحسين من مكة إلا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه يوما الحسين فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثا ، غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من [ ص: 152 ] الغنائم ، فأما أنا فأستودعكم الله ! ثم طلق زوجته وقال لها : الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير .

ولزم الحسين حتى قتل معه .

وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية فقال له بعض أصحابه : ننشدك إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك ! فوثب بنو عقيل وقالوا : والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم ! فقال الحسين : لا خير في العيش بعد هؤلاء :

فقال له بعض أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع .

ثم ارتحلوا فانتهوا إلى زبالة ، وكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن بقطر ، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله ، فأخذته خيل الحصين ، فسيره من القادسية إلى ابن زياد ، فقال له : اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي .

فصعد فأعلم الناس بقدوم الحسين ولعن ابن زياد وأباه ، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فلما عيب ذلك عليه قال : إنما أردت أن أريحه .

قال بعضهم : لم يكن الذي ذبحه عبد الملك بن عمير ولكنه رجل يشبه عبد الملك .

فلما أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل أعلم الناس ذلك وقال : قد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام .

فتفرقوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة ، وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا علام يقدمون .

ثم سار حتى نزل بطن العقبة ، فلقيه رجل من العرب فقال له : أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف ، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأيا ، فأما على

[ ص: 153 ] هذه الحال التي تذكر فلا أرى أن تفعل .

فقال : إنه لا يخفى علي ما ذكرت ولكن الله ، عز وجل ، لا يغلب على أمره .

ثم ارتحل منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية