الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن الكفر على ضربين: كفر تصريح، وكفر تأويل

كيف والكفر على ضربين: كفر تصريح، وكفر تأويل: فالأول: كفر بواح، وعليه تحمل الأدلة الواردة في ذلك.

والثاني: لا ينبغي أن يصرح بالتكفير لصاحبه؛ لأحاديث وردت في هذا الباب.

وقد حقق ذلك بركة الليالي والأيام الشوكاني الإمام -قدس سره- في مؤلفاته تحقيقا شريفا، فراجعه، ولا تكن من الرافضة السابين، والمقلدة الشاتمين والمبتدعة الضالين، والمشركة المضلين، والمتصوفة الجاهلين، والفقهاء المنتحلين، والعصابة الغالين.

بل امتثل ما أمر الله به في كتابه الكريم في هذه الآية في حق الأنصار والمهاجرين، ومن تبعهم بالإحسان إلى يوم الدين.

وإني أقول في هذا المقام، وأسأل الله ذا الجلال والإكرام، أن يتقبل مني هذا [ ص: 395 ] الدعاء والاستغفار، ولا يحرمنا من غفرانه ورضوانه، وإن جئنا بكثير الأوزار، وهو هذا الدعاء:

اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وهم الصحابة، والعترة، وجميع سلف الأمة وأئمتها من أهل الحديث والقرآن، ومن تبعهم من آبائنا وأبنائنا ونسائنا وأمهاتنا بالإحسان مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنبا، ولا تذر إثما ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا سواء تقدموا أو تأخروا ربنا إنك رءوف بنا وبهم رحيم إيانا وإياهم، واحشرنا في زمرة المحدثين تحت لواء سيد المرسلين، واجعله لنا شافعا ومشفعا يا أرحم الراحمين.

وقال تعالى: وسيجنبها الأتقى [الليل: 17] أي: سيباعد عنها المتقي للكفر اتقاء بالغا.

قال الواحدي: الأتقى: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في قول جميع المفسرين.

وعن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت هذه الآية، وفي الباب روايات الذي يؤتي ماله أي: يعطيه ويصرفه في وجوه الخير يتزكى أي: حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكيا، لا يطلب رياء ولا سمعة وما لأحد عنده من نعمة تجزى أي: من شأنها أن تجازى وتكافأ، وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى، كما قال سبحانه: إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى أي: لكن ابتغاء وجه ربه ولسوف يرضى اللام هي الموطئة للقسم؛ أي: وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم، وهو وعد من الكريم لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجلها؛ إذ به يتحقق الرضاء. قاله أبو السعود.

والآية نص قاطع للنزاع في أن أبا بكر هو المخبر عنه في هذه الآية، ومن أخبر الله بإخلاصه في العمل وإرضائه، فليس لأحد أن يقول فيه ما لا يجوز شرعا وعقلا. قاتل الله الرافضة، قد تجاوزوا الحد في حقه، وقالوا فيه، ونالوا منه ما لم يكن بحق.

[ ص: 396 ] ففي الآية رد عليهم، وعلى كل من يسيء الظن فيه، ويذكره بسوء، ويسيء الأدب به، والله مجازيه ومحاسبه يوم القيامة.

وقال تعالى: قل أأنبئكم بخير من ذلكم أي: من تلك المسلتزمات، ومتاع الدنيا، وإبهام الخبر للتفخيم. ثم بينه بقوله: للذين اتقوا قال ابن عباس: يريد: المهاجرين والأنصار.

قلت: ويدخل فيه كل من اتقى الشرك، ودخل الصحابة فيه دخولا أوليا، والعبرة بعموم المباني لا بخصوص المعاني عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار [آل عمران: 15 - 17] هذه صفات الصحابة أصلا بالذات، ويدخل فيها كل من اتصف بها، تبعا وبالعرض.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ذكر في «الكشاف» : أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت: ثلاث في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسبع في زمن الصديق، وفرقة واحدة في زمن عمر فسوف يأتي الله بقوم المراد بهم: أبو بكر الصديق وجيشه من الصحابة والتابعين، الذين قاتل بهم أهل الردة.

وقال بعض الصحابة: ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة.

وقال السدي: نزلت في الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعانوه على إظهار الدين يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم فيه بيان أوصاف الصحابة، وبيان فضيلتهم.

وقال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون عن ابن عباس، قال: تصدق علي بن أبي طالب بخاتم [ ص: 397 ] وهو راكع، فأنزل الله فيه هذه الآية، وعن علي نحوه، أخرجه أبو الشيخ، وابن عساكر.

ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون أي: بالحجة والبرهان، فإنها مستمرة أبدا، لا بالدولة والصولة، وإلا فقد غلب حزب الله غير مرة، حتى في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله الكرخي.

وبالجملة: الآية دالة على فضيلة المرتضى كرم الله وجهه.

وقال تعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة هي «غزوة تبوك»..

قال بعض أهل العلم: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سار إلى «تبوك» في سبعين ألفا، ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل.

فالمراد بالساعة: أوقات جميع تلك الغزاة. والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة؛ لأنه كان عليهم عسرة في الزاد، والظهر، والماء من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا [التوبة: 117- 118] وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، وكلهم من الأنصار إلى قوله: ثم تاب عليهم بالقول والرحمة ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم [التوبة: 117- 118] فيه تسجيل بقبول التوبة، ومحو الحوبة من هؤلاء الصحابة، وهذه فضيلة لهم عظيمة.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أي: في مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين [التوبة: 119] قال سعيد بن جبير: كونوا مع أبي بكر وعمر. وزاد الضحاك: وأصحابهما.

وعن ابن عباس: مع علي بن أبي طالب. وعن جعفر قال: مع الثلاثة الذين خلفوا.

[ ص: 398 ] وقال ابن جرير: مع المهاجرين، وقيل: مع الذين خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك.

وعلى كل تقدير، فيه الأمر بالكون مع أهل الصدق، وهم جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار وأهل البيت الأطهار.

واحتج أبو بكر بهذه الآية على الأنصار يوم السقيفة حين قالوا: منا أمير، ومنكم أمير.

فقال: إن الله يقول في كتابه: للفقراء المهاجرين إلى قوله: أولئك هم الصادقون فمن هؤلاء؟ قال الأنصار: أنتم هم، فقال: إن الله يقول: وكونوا مع الصادقين فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم. وبالجملة: في الآية دلالة على فضل الصحابة، ونص على كونهم صادقين.

فمن أبغضهم ونسبهم إلى سوء في القول أو في العمل، فهو غير عارف بمدارك الآيات الشريفة في شأنهم، وبمعزل عن الصدق والإنصاف، مغمور في الجهل والاعتساف.

وقال تعالى: ولا يأتل أي: لا يحلف أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أي: لا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [النور: 22].

هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في قصة رمي عائشة بالقبيح، اتفاقا من أهل العلم، وجمهور المفسرين، وفيه فضيلة له عظيمة، ودلالة على غفران الله له.

وقال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا فيه دليل على صحة العبادة، والدعاء بالخوف والطمع، وقد حققه في «هداية السائل إلى أدلة المسائل» مؤلفه.

[ ص: 399 ] ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون هذه الآية نزلت في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- باتفاق الجمهور من أهل التفسير.

عن أنس بن مالك، قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء.

وعن بلال، قال: كنا نجلس في المسجد، وناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلون بعد المغرب العشاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع وعن أنس نحوه.

وفي الباب آثار كثيرة، وفيه بيان فضيلتهم وجزائهم الجزاء الأوفى.

والآية، وإن نزلت فيهم، فعمومها يشمل كل من اتصف بهذه الأوصاف، وهم داخلون فيها دخولا أوليا.

وقال تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [الزمر: 9]. عن ابن عمر: أنه تلا هذه الآية، وقال: ذلك عثمان بن عفان. وفي لفظ: نزلت في عثمان. وعن ابن عباس: نزلت في عمار بن ياسر. والأول أظهر.

وفيه بيان فضيلة الخليفة الثالث، ودلت -بفحوى الخطاب- على كونه عالما لبيبا، كما دلت على كونه عابدا، فهو من الجامعين بين العلم والعبادة والعقل.

وزعمت الشيعة الشنيعة فيه ما لم يكن فيه قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة: 30].

وقال تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف: 16] قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق.

[ ص: 400 ] قال: نزلت فيه أيضا فأما من أعطى واتقى إلى آخر السورة.

قال النسفي: نزلت فيه، وفي أبيه أبي قحافة، وأمه أم الخير، وفي أولاده، ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار، أسلم هو ووالده، وبناته، غير أبي بكر رضي الله عنه.

وبالجملة: الآية دالة على فضيلته وفضيلة أهل بيته -رضي الله عنهم- وفيها تسجيل على كونهم من أهل الجنة، وكفى بهذا شرفا.

لحا الله قوما قالوا فيه ما لا يستحق القول به، وخالفوا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك. وهل بعد بيانهما بيان، أو قرية بعد عبادان!

وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .

عن ابن مسعود، قال: يعني أبا عبيدة بن الجراح، وأبا بكر الصديق، ومصعب بن عمير، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، قتلوا أقاربهم يوم «بدر» فنزلت فيهم؛ أي: ثناء عليهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ذكر القلوب؛ لأنها موضعه وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها فيه وعد بإدخالهم الجنة رضي الله عنهم ورضوا عنه فيه نص على الترضي عنهم، وكفاهم هذا فضيلة على غيرهم من سائر المسلمين أولئك حزب الله أي: جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه.

وفي إضافتهم إلى الله تشريف لهم، وتعظيم، وتكريم فخيم ألا إن حزب الله هم المفلحون [المجادلة: 22] أي: الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح، الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.

وقال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [البينة: 7] عن جابر بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل علي، فقال له [ ص: 401 ] النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده! إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة» ونزلت هذه الآية.

فكان أصحاب محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أقبل علي، قالوا: قد جاء خير البرية.
أخرجه ابن عساكر. وفي الباب أخبار وآثار كثيرة.

جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا [البينة: 8] والآية وإن كان لها سبب خاص، فالعبرة بعمومها، فيدخل فيها كل من اتصف بالإيمان والاعتمال بالأعمال الصالحات.

ويدخل فيها من نزلت فيه دخولا أوليا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه أي: ذلك الجزاء والرضوان لمن وقعت منه الخشية لله سبحانه في الدنيا، وانتهى عن معاصيه بسببها، لا مجرد الخشية من الانهماك في معاصي الله، فإنها ليست بخشية في الحقيقة. والله أعلم.

وهذه آيات قليلة ذكرناها في هذا الباب؛ إشارة إلى أن في القرآن مثلها كثيرا جدا، طيب، بل كل ما في القرآن من بيان فضائل المؤمنين والمسلمين ومواعيدهم بالجنة، وما يتصل بها، هو نازل حقيقة في شأن الصحابة، على اختلاف قبائلهم وبيوتهم، من المهاجرين والأنصار وغيرهم.

وإنما يدخل فيه سائر الأمة باعتبار عموماته، كما تقرر في الأصول.

فالأصول في هذه الفضائل والمناقب هم الصحابة -رضي الله عن جميعهم- والفروع هم التابعون لهم بإحسان إلى آخر الدهر.

فتأمل في حال أقوام ممن أساؤوا الأدب، وممن نالوا بلسانهم الكذب.

أليس هذا القرآن عندهم بكتاب الله، أم ليس ما فيه بحق، حتى خالفوا صرائحه، وشاققوا ظواهره؟! قطع الله دابرهم، وقلل أمثالهم، وبدد شملهم، وأنزل بهم بأسه الذي لا يرده عن القوم المجرمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية