الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قلت : إن من سنته - تعالى - في الإنسان أن يولي كلا من الأصناف ما تولى ، ولكنه لا يصلي كلا منهم جهنم التي ساء مصيرها ; لأن إصلاء جهنم هو تابع لما يتولاه الإنسان من الضلالة في اعتقاده ، وناهيك به إذ تولاها بعد أن ظهرت الهداية له ، وذلك أن الجزاء أثر طبيعي لما تكون عليه النفس في الدنيا من الطهارة والزكاء والكمال بحسب تزكية صاحبها لها ، أو من ضد ذلك بحسب تدسيته لها ، ويدل على هذا وذاك قوله - تعالى - : نوله ما تولى .

                          وإنني لا أتذكر أنني اطلعت على تفسير واضح لهذه الجملة الحكيمة العالية نوله ما تولى ، وإنما يفسرون اللفظ بمدلوله اللغوي ، كأن يقولوا : نوجهه إلى حيث توجه ، [ ص: 339 ] أو نجعله واليا لما اختار أن يتولاه ، أو يزيدون على ذلك استدلال كل فرقة بالآية على مذهبها أو تحويلها إليه ، أعني مذهبهم في الكسب والقدر والجبر ، وتعلق الإرادة الإلهية أو عدم تعلقها بالشر ، والذي أريد بيانه وتوجيه الأذهان إلى فهمه هو أن هذه الجملة مبينة لسنة الله - تعالى - في عمل الإنسان ، ومقدار ما أعطيه من الإرادة والاستقلال ، والعمل بالاختيار ، فالوجهة التي يتولاها في حياته ، والغاية التي يقصدها من عمله ، يوليه الله إياها ويوجهه إليها ، أي يكون بحسب سنته - تعالى - واليا عليها ، وسائرا على طريقها ، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه ، ولو شاء - تعالى - لهدى الناس أجمعين بخلقهم على حالة واحدة في الطاعة كالملائكة ، ولكنه شاء أن يخلقهم على ما نراهم عليه من تفاوت الاستعداد والإدراك ، وعمل كل فرد بحسب ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله وآجله أو فيهما جميعا إلى آخر ما لا محل لشرحه هنا من طبائع البشر .

                          وذهب بعضهم إلى أن المراد من تولية الله لمثل هذا ما تولى هو ما يلزمها من عدم العناية والألطاف ، بناء على أن لله - تعالى - عناية خاصة ببعض عباده وراء ما تقتضيه سننه في الأسباب والمسببات ، وجعل الجزاء في الدنيا والآخرة أثرا طبيعيا للأعمال ، وما في ذلك من النظام والعدل العام ، والظاهر أن المراد بالجملة ما ذكرنا من حقيقة معناها ، وحاصله أن من كان هذا شأنه فهو الجاني على نفسه ; لأن من سنة الله أن يكون حيث وضع نفسه واختار لها وأن مصيره إلى النار وبئس القرار ، نعم إن الله - تعالى - يختص برحمته من يشاء ، ويهب للذين أحسنوا الحسنى ويزيدهم من فضله ، ولكن ليس هذا المقام مقام بيان سبب الحرمان من مثل هذا الاختصاص ، إذ ليس من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مظنة له ، فيصرح بنفيه عنه ، وليت شعري أيقول الذين فسروا التولية بهذا النفي والحرمان من العناية والألطاف : إن هذا الصنف وحده هو المحروم من ذلك ، أم الحرمان شامل لغيره من أصناف الضالين ؟ وهل يستلزم حرمانه من ذلك اليأس من هدايته ثانية أم لا ؟ لا يمكنهم أن يقولوا في هذا الباب ما تقوم به الحجة ويسلم من الإيرادات التي لا تدفع ، والصواب أنه لا مانع يمنع من عودة هذا الصنف من الضالين إلى الهدى ; لأن علمه بحقيقة ما كان عليه ، وبطلان ما صار إليه ، لا يبرح يلومه ويوبخه على ما فعله ، ولا يبعد أن يجيء يوم يكون فيه الفلج له .

                          أما السبب الذي يحمل من تبين له الهدى على تركه ، فهو لا بد أن يكون حالا من الأحوال [ ص: 340 ] النفسانية القوية كالحسد والبغي ، وحب الرياسة والكبر ، والشهوة الغالبة على العقل ، والعصبية للجنس ، والقول الجامع فيه اتباع هوى النفس ، وقد ثبت أن بعض أحبار اليهود قد تبين لهم صدق دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتولوا عنها حسدا له وللعرب أن يكون منهم خاتم النبيين ، وإيثارا لرياستهم في قومهم ، على أن يكونوا مرؤوسين في غيرهم ، وارتداد جبلة بن الأيهم عن الإسلام ، لما رأى أنه يساوي بينه وبين من لطمه من السوقة ، وارتد أناس في أزمنة مختلفة عن دينهم لافتتانهم ببعض النساء من الكفار ، وعلة ذلك كله أي علة تأثير هذه الأسباب في نفوس بعض الناس هي ضعف النفس ومرض الإرادة بجريان صاحبها من أول نشأته على هواه ، وعدم تربيتها على تحمل ما لا تحب في العاجل لأجل الخير الآجل ، وهذا هو مرادنا من إرجاع جميع الأسباب إلى اتباع الهوى وهو ما أشرنا إليه من قبل ، وهو يرجع إلى ما قلنا من أن الإنسان مفطور عليه من ترجيح ما يرى أنه خير له وأنفع ، وصاحب الهوى المتبع لا يتمثل له النفع الآجل كما يستحوذ عليه النفع العاجل لضعف نفسه ، ومهانتها وعجزها عن الوقوف في مهب الهوى من غير أن تميل معه ، وقد حكي أن الحجاج مد سماطا عاما للناس فجعلوا يأكلون وهو ينظر إليهم ، فرأى فيهم أعرابيا يأكل بشره شديد فلما جاءت الحلوى ترك الطعام ووثب يريدها فأمر الحجاج سيافه أن ينادي : من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه بأمر الأمير ، والحجاج يقول ويفعل فصار الأعرابي ينظر إلى السياف نظرة وإلى الحلوى نظرة ، كأنه يرجح بين حلاوتها ومرارة الموت ، ولم يلبث أن ظهر له وجه الترجيح ، فالتفت إلى الحجاج وقال له : " أوصيك بأولادي خيرا " وهجم على الحلوى وأنشأ يأكل والحجاج يضحك ، وهو إنما أراد اختباره .

                          ومن مباحث الأصول في هذه الآية استدلال بعضهم بها على حجية الإجماع ; لأن مخالفه متبع غير سبيل المؤمنين ، وعبر بعضهم في بيان حجيته بأنه هو سبيل المؤمنين وقد علمت أن الإجماع الذي يعنونه هو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة نبيها في أي عصر على أي أمر ، والآية إنما نزلت في سبيل المؤمنين في عصره لا بعد عصره ، وأتذكر أنني بينت عدم اتجاه الاستدلال بالآية على حجية الإجماع في المنار ، وكذلك رده الأستاذ الإمام والإمام الشوكاني في إرشاد الفحول ، والآية التي تدل على الإجماع الصحيح هي قوله - تعالى - في هذه السورة : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 59 ) ، وقد تقدم تفسيرها وبحث الإجماع فيها ، وزدته بيانا في المسألة الخامسة من المسائل التي جعلتها متممة لتفسيرها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية